مواضيع المدونة

الجمعة، مايو 25، 2012

فصول في القلب وعن القلب



بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد

قال الغزالي قدس سره في كتابه كمياء السعادة:


فصل معرفة عساكر القلب

 وتحتاج أن تعرف العسكرين: وذلك أن العسكر الظاهر هو:الشهوة والغضب؛ ومنازلهم في اليدين، والرجلين، والعينين، والأذنين، وجميع الأعضاء.


وأما العسكر الباطن، فمنازله في الدماغ، وهو قوي الخيال، والتفكر، والحفظ، والتذكر، والوهم. ولكل قوة من هذه القوى عمل خاص. فإن ضعف واحد منهم ضعف حال ابن آدم في الدارين. وجملة هذين العسكرين في القلب، وهو أميرهما؛ فإن أمر اللسان أن يذكر ذكر، وإن أمر اليد أن تبطش بطشت، وإن أمر الرجل أن تسعى سعت، وكذلك الحواس الخمس حتى يحفظ نفسه؛ كيما يدخر الزاد للدار الآخرة، ويحصل الصيد، وتتم التجارة، ويجمع بذر السعادة.


 وهؤلاء طائعون للقلب، كما أن الملائكة طائعون للرب سبحانه وتعالى لا يخالفون أمره.


فصل في معرفة القلب وعسكره

اعلم أنه قيل في المثل المشهور: إن النفس كالمدينة، واليدين والقدمين وجميع الأعضاء ضياعها، والقوة الشهوانية واليها، والقوة الغضبية شحنتها، والقلب ملكها، والعقل وزيرها. والملك يدبرهم حتى تستقر مملكته وأحواله؛ لأن الوالي وهو الشهوة كذاب فضولي مخلط، والشحنة - وهو الغضب - شرير قتال
خراب. فإن تركهم الملك على ما هم عليه، هلكت المدينة وخربت؛ فيجب أن يشاور الملك الوزير، ويجعل الوالي والشحنة تحت يد الوزير. فإذا فعل ذلك استقرت أحوال المملكة وتعمرت المدينة. وكذلك القلب يشاور العقل، ويجعل الشهوة والغضب تحت حكمه، حتى تستقر أحوال النفس، ويصل إلى سبب السعادة من معرفة الحضرة الإلهية.

ولو جعل العقل تحت يد الغضب والشهوة، هلكت نفسه، وكان قلبه شقيا في الآخرة.

فصل وظيفة القلب


اعلم أن الشهوة والغضب خادمان للنفس جاذبان يحفظان أمر الطعام والشراب والنكاح لعمل الحواس.


ثم النفس خادم الحواس شبكة العقل وجواسيسه يبصر بها صنائع البارئ جلت قدرته.

ثم الحواس خادم العقل، وهو للقلب سراج وشمعة يبصر بنوره الحضرة الإلهية؛ لأن الجنة وهي نصيب الجوف أو الفرج محتقرة 

في جنب تلك الجنة.


ثم العقل خادم القلب، والقلب مخلوق لنظر جمال الحضرة الإلهية.


فمن اجتهد في هذه الصنعة، فهو عبد حق، من غلمان الحضرة، كما قال سبحانه وتعالى: (وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدون).


معناه: إنا خلقنا القلب، وأعطيناه الملك والعسكر، وجعلنا النفس مركبة؛ حتى يسافر عليه من عالم التراب إلى أعلى عليين.

فإذا أراد أن يؤدي حق هذه النعمة، جلس مثل السلطان في صدر مملكته، وجعل الحضرة الإلهية قبلته ومقصده، وجعل الآخرة وطنه وقراره، والنفس مركبه، والدنيا منزله، واليدين والقدمين خدامه، والعقل وزيره، والشهوة عامله، والغضب شحنته، والحواس جواسيسه. وكل واحد موكل بعالم من العوالم يجمع له أحوال العوالم. وقوة الخيال في مقدم الدماغ كالنقيب يجمع عنده أخبار الجواسيس، وقوة الحفظ في وسط الدماغ مثل صاحب الخريطة يجمع الرقاع من يد النقيب ويحتفظها إلى أن يعرضها على العقل. فإذا بلغت هذه الأخبار إلى الوزير يرى أحوال المملكة على مقتضاها.


فإذا رأيت واحداً منهم قد عصى عليك، مثل الشهوة والغضب، فعليك بالمجاهدة، ولا تقصد قتلهما؛ لأن المملكة لا تستقر إلا بهما.


فإذا فعلت ذلك كنت سعيداً، وأديت حق النعمة، ووجبت لك الخلعة في وقتها، وإلا كنت شقياً، ووجب عليك النكال والعقوبة.

فصل ثلاثة أشياء تبنى عليها السعادة




 تمام السعادة مبني على ثلاثة أشياء: قوة الغضب، قوة الشهوة، قوة العلم.

 فيحتاج أن يكون أمرها متوسطاً؛ لئلا تزيد قوة الشهوة فتخرجه إلى الرخص فيهلك، أو تزيد قوة الغضب فتخرجه إلى الجموح فيهلك.


 فإذا توسطت القوتان بإشارة قوة العلم دل على طريق الهداية، وكذلك الغضب إذا زاد سهل عليه الضرب والقتل، وإذا نقص ذهبت الغيرة والحمية في الدين والدينا، وإذا توسط كان الصبر والشجاعة والحكمة. وكذا الشهوة إذا زادت كان الفسق والفجور، وإن نقصت كان العجز والفتور، إن توسطت كان العفة والقناعة 
وأمثال ذلك.

فصل أحوال القلب مع عسكره

 اعلم أن للقلب مع عسكره أحوالا وصفات، بعضها يسمى أخلاق 

السوء، وبعضها أخلاق الحسن فبالأخلاق الحسنة يبلغ درجة 

السعادة، وبالأخلاق السيئة هلاكه وخروجه للشقاء.

وهذه كلها تبلغ أربعة أجناس: أخلاق الشياطين، أخلاق البهائم، 

أخلاق السباع، أخلاق الملائكة.

فأعمال السوء: من الأكل والشرب، والنوم، والنكاح؛ هي أخلاق 

البهائم.


وكذلك أعمال الغضب: من الضرب، والقتل، والخصومة هي 

أخلاق السباع.

وكذلك أعمال النفس: وهي المكر، والحيلة، والغش، وغير ذلك؛ 

هي أخلاق الشياطين.

وكذلك أعمال العقل؛ التي هي الرحمة، والعلم، والخير؛ هي 

أخلاق الملائكة.


فصل الأخلاق الحسنة والأخلاق القبيحة

 واعلم أن في جلد ابن آدم أربعة أشياء: الكلب، الخنزير، 

الشيطان، الملك.
 
 والكلب مذموم في صفاته، وليس بمذموم في صورته. وكذلك 

الشيطان والملائكة، ذمهم ومدحهم في صفاتهم، وليس ذلك في 

صورهم وخلقهم. وكذلك الخنزير مذموم في صفاته، وليس 

بمذموم في خلقته.


 وقد أمر ابن آدم بأن يكشف ظلم الجهل بنور العقل؛ خوفا من 

الفتنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: )ما من أحد إلا وله 

شيطان، ولي شيطان، وأن الله قد أعانني على شيطاني حتى 

أسلم(. وكذلك الشهوة والغضب، ينبغي أن يكونا تحت يد العقل، 

فلا يفعل شيئا إلا بأمره، فإن فعل ذلك صح له حسن الأخلاق، 

وهي صفات الملائكة، وهي بذر السعادة. وإن عمل بخلاف ذلك، 

فخدم الشهوة والغضب، صح له الأخلاق القبيحة، وهي صفات 

الشياطين، وهي بذر الشقاء. فيتبين له في نومه كأنه قائم 

مشدود الوسط يخدم الكلب والخنزير، وكان مثله كمثل رجل مسلم يأخذ رجالا مسلمين يحبسهم عند كافرين. فكيف يكون حالك يوم القيامة إذا حبست الملك - وهو العقل - تحت يد الشهوة 

والغضب، وهما الكلب والخنزير?


فصل هل الصور تابعة للمعاني?

 واعلم أن الإنسان في صورة ابن آدم اليوم، وغداً تنكشف له 

المعاني، فتكون الصور في معنى المعاني.

فأما الذي غلب عليه الغضب، فيقوم في صورة الكلب. وأما الذي غلب عليه الشهوة، فيقوم في صورة الخنزير؛ لأن الصور تابعة للمعاني. وإنما يبصر النائم في نومه ما صح في باطنه. وإنماعرفت أن الإنسان في باطنه هذه الأربعة، فيجب أن يراقب 

حركاته وسكناته، ويعرف من أي الأربعة هو؛ فإن صفاته تحصل  في قلبه وتبقى معه إلى يوم القيامة. وإن بقي من جملة الباقيات الصالحات شيء فهو بذر السعادة، وإن بقي معه غير ذلك فهو  بذر الشقاء.


وابن آدم لا ينفك ولا ينفصل عن حركة أو سكون، وقلبه مثل 

الزجاج، وأخلاق السوء كالدخان والظلمة، فإذا وصل إليه ذلك 

أظلم عليه طريق السعادة. وأخلاق الحسن كالنور والضوء، فإذا وصل إلى القلب طهره من ظلم المعاصي، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )أتبع السيئة الحسنة تمحها(. والقلب إما مضيء أو مظلم، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم.


فصل في عجائب القلب

اعلم أن للقلب بابين للعلوم: واحد للأحلام، والثاني لعالم اليقظة.

وهو الباب الظاهر إلى الخارج، فإن نام غلق باب الحواس، 

فيفتح له باب الباطن ويكشف له غيب من عالم الملكوت، ومن 

اللوح المحفوظ؛ فيكون مثل الضوء، وربما احتاج كشفه إلى 

شيء من تعبير الأحلام. وأما ما كان من الظاهر، فيظن الناس. 

أن به اليقظة، وأن اليقظة أولى بالمعرفة، مع أنه لا يبصر في 

اليقظة شيء من عالم الغيب، وما يبصر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة مما يبصر من طريق الحواس.



فصل القلب مثل المرآة

وتحتاج أن تعرف في ضمن ذلك أن القلب مثل المرآة، واللوح 

المحفوظ مثل المرآة أيضا؛ لأن فيه صورة كل موجود، وإذا قابلتالمرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما في الأخرى، وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارغا من شهوات الدنيا، فإن كان مشغولا بها كان عالم الملكوت محجوبا عنه، وإن كان في حال النوم فارغا من علائق الحواس طالع جواهر عالم الملكوت؛ فظهر فيه بعض الصور التي في اللوح المحفوظ.


وإذا أغلق باب الحواس كان بعده الخيال؛ لذلك يكون الذي 

يبصره تحت ستر القشر، وليس كالحق الصريح مكشوفا فإذا 

مات - أي القلب - بموت صاحبه لم يبق خيال ولا حواس. وفي 

ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال، ويقال له: (فَكَشَفنا عَنكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَديد).


فصل متى يحجب القلب عن مطالعة عالم الملكوت?

 واعلم أنه ما من أحد إلا ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم، 

وبيان الحق على سبيل الإلهام.


وذلك لا يدخل من طريق الحواس، بل يدخل في القلب، لا يعرف 

من أين جاء؛ لأن القلب من عالم الملكوت، والحواس مخلوقة 

لهذا العالم )عالم الملك( . فلذلك يكون حجابه عن مطالعة ذلك 

العالم إذا لم يكن فارغا من شغل الحواس.


فصل متى يطالع القلب عالم الملكوت?




ولا تظنن أن هذه الطاقة تنفتح بالنوم والموت فقط، بل تنفتح 

باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة، وتخلص من يد الشهوة 

والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة.


فإذا جلس في مكان خال، وعطل طريق الحواس، وفتح عين 

الباطن وسمعه، وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت، وقال 

دائما: )الله- الله- الله( بقلبه، دون لسانه، إلى أن يصير لا 

خير معه من نفسه، ولا من العالم، ويبقى لا يرى شيئا إلا الله 

سبحانه وتعالى انفتحت تلك الطاقة، وأبصر في اليقظة الذي 

يبصره في النوم؛ فتظهر له أرواح الملائكة، والأنبياء، والصور 

الحسنة الجملية، وانكشف له ملكوت السماوات والأرض، ورأى 

ما لا يمكن شرحه ولا وصفه، كما قال النبي صلى الله عليه 

وسلم: )زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغربها( وقال الله عز 

وجل: (وَكَذلِكَ نُري إِبراهيمَ مَلَكوتَ السَماواتِ وَالأَرض). لأن علوم 

الأنبياء عليهم السلام كلها كانت من هذا الطريق، لا من طريق 

الحواس، كما قال سبحانه وتعالى: (وَاِذكُرِ اِسمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّل إِلَيهِ 

تَبتيلاً)، معناه: الانقطاع عن كل شيء، وتطهير القلب من كل 

شيء، والابتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق