بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و آل سيدنا محمد
هذه الرسالة فيها كل العرفان العملي للسالك...وهي عن الامام جعفر الصادق عليه
السلام:
عَنْ عِنْوَانِ البَصْرِيِّ ـ وكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ أَتَي عَلَیهِ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً قَالَ: كُنْتُ أَخْتَلِفُ إلی مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ سِنِينَ، فَلَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ عَلَیهِ السَّلاَمُ المَدِينَةَ اخْتَلَفْتُ إلَيْهِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ آخُذَ عَنْهُ كَمَا أَخَذْتُ عَنْ مَالِكٍ.
فَقَالَ لِي يَوْماً: إنِّي رَجُلٌ مَطْلُوبٌ وَمَعَ ذَلِكَ لِي أَوْرَادٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ آنَاءِ اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، فَلاَ تَشْغَلْنِي عَنْ وِرْدِي؛ وَخُذْ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَلِفْ إلَيْهِ كَمَا كُنْتَ تَخْتَلِفُ إلَيْهِ. فَاغْتَمَمْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ تَفَرَّسَ فِيَّ خَيْراً لَمَا زَجَرَنِي عَنِ الاِخْتِلاَفِ إلَيْهِ وَالاَخْذِ عَنْهُ.
فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ الرَّسُولِ صَلَّي اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمْتُ عَلَیهِ ثُمَّ رَجَعْتُ مِنَ الغَدِ إلی الرَّوْضَةِ وَصَلَّيْتُ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ وَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ يَا اللَهُ يَا اللَهُ! أَنْ تَعْطِفَ عَلَيَّ قَلْبَ جَعْفَرٍ وَتَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِهِ مَا أَهْتَدِي بِهِ إلی صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ!
وَرَجَعْتُ إلی دَارِي مُغْتَمَّاً وَلَمْ أَخْتَلِفْ إلی مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لِمَا أُشْرِبَ قَلْبِي مِنْ حُبِّ جَعْفَرٍ. فَمَا خَرَجْتُ مِنْ دَارِي إلاَّ إلی الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ حَتَّي عِيلَ صَبْرِي.
فَلَمَّا ضَاقَ صَدْرِي تَنَعَّلْتُ وَتَرَدَّيْتُ وَقَصَدْتُ جَعْفَراً وَكَانَ بَعْدَمَا صَلَّيْتُ العَصْرَ. فَلَمَّا حَضَرْتُ بَابَ دَارِهِ اسْتَأْذَنْتُ عَلَیهِ فَخَرَجَ خَادِمٌ لَهُ فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟! فَقُلْتُ: السَّلاَمُ عَلَي الشَّرِيفِ!
فَقَالَ: هُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلاَّهُ. فَجَلَسْتُ بِحِذاءِ بَابِهِ، فَمَا لَبِثْتُ إلاَّ يَسِيراً. إذْ خَرَجَ خَادِمٌ فَقَالَ: ادْخُلْ عَلَي بَرَكَةِ اللَهِ. فَدَخَلْتُ وَسَلَّمْتُ عَلَیهِ. فَرَدَّ السَّلاَمَ وَقَالَ: اجْلِسْ غَفَرَ اللَهُ لَكَ!
فَجَلَسْتُ. فَأَطْرَقَ مَلِيَّاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: أَبُو مَنْ؟!
قُلْتُ: أَبُو عَبْدِ اللَهِ!
قَالَ: ثَبَّتَ اللَهُ كُنْيَتَكَ وَوَفَّقَكَ؛ يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! مَا مَسْأَلَتُكَ؟!
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي مِنْ زِيَارَتِهِ وَالتَّسْلِيمِ غَيْرُ هَذَا الدُّعَاءِ لَكَانَ كَثِيراً. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: مَا مَسْأَلَتُكَ؟!
فَقُلْتُ: سَأَلْتُ اللَهَ أَنْ يَعْطِفَ قَلْبَكَ عَلَيَّ وَيَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِكَ؛ وَأَرْجُو أَنَّ اللَهَ تَعَالَي أَجَابَنِي فِي الشَّرِيفِ مَا سَأَلْتُهُ.
فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! لَيْسَ العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَي أَنْ يَهْدِيَهُ؛ فَإنْ أَرَدْتَ العِلْمَ فَاطْلُبْ أَوَّلاً فِي نَفْسِكَ حَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ، وَاطْلُبِ العِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَاسْتَفْهِمِ اللَهَ يُفْهِمْكَ!
قُلْتُ: يَا شَرِيفُ! فَقَالَ: قُلْ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ!
قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! مَا حَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ؟!
قَالَ: ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ: أَنْ لاَ يَرَي العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللَهُ مِلْكاً، لاِنَّ العَبِيدَ لاَ يَكُونُ لَهُمْ مِلْكٌ؛ يَرَوْنَ المَالَ مَالَ اللَهِ يَضَعُونَهُ حَيْثُ أَمَرَهُمُ اللَهُ بِهِ. وَلاَ يُدَبِّرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ تَدْبِيراً. وَجُمْلَةُ اشْتِغَالِهِ فِيمَا أَمَرَهُ تَعَالَي بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ.
فَإذَا لَمْ يَرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللَهُ تَعَالَي مِلْكاً، هَانَ عَلَیهِ الإنْفَاقُ فِيمَا أَمَـرَهُ اللَهُ تَعَـالَي أَنْ يُنْفِقَ فِيهِ. وَإذَا فَـوَّضَ العَبْدُ تَدْبِيـرَ نَفْسِـهِ عَلَي مُدَبِّرِهِ، هَانَ عَلَیهِ مَصَائِبُ الدُّنْيَا. وَإذَا اشْتَغَلَ العَبْدُ بِمَا أَمَرَهُ اللَهُ تَعَالَي وَنَهَاهُ، لاَ يَتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إلی المِرَاءِ وَالمُبَاهَاةِ مَعَ النَّاسِ.
فَإذَا أَكْرَمَ اللَهُ العَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلاَثَةِ هَانَ عَلَیهِ الدُّنْيَا، وَإبْلِيسُ، وَالخَلْقُ. وَلاَ يَطْلُبُ الدُّنْيَا تَكَاثُراً وَتَفَاخُراً، وَلاَ يَطْلُبُ مَا عِنْدَ النَّاسِ عِزَّاً وَعُلُوَّاً، وَلاَ يَدَعُ أَيَّامَهُ بَاطِلاً.
فَهَذَا أَوَّلُ دَرَجَةِ التُّقَي؛ قَالَ اللَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَي:
«تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الاْرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَـ'قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».
قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! أَوْصِنِي!
قَالَ: أُوصِيكَ بِتِسْعَةِ أَشْيَاءَ، فَإنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إلی اللَهِ تَعَالَي؛ وَاللَهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَكَ لاِسْتِعْمَالِهِ.
ثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي الحِلْمِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي العِلْمِ. فَاحْفَظْهَا؛ وَإيَّاكَ وَالتَّهَاوُنَ بِهَا!
قَالَ عُِنْوَانٌ: فَفَرَّغْتُ قَلْبِي لَهُ.
فَقَالَ: أَمَّا اللَوَاتِي فِي الرِّيَاضَةِ:
فَإيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ مَا لاَ تَشْتَهِيهِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَالبَلَهَ. وَلاَ تَأْكُلْ إلاَّ عِنْدَ الجُوعِ. وَإذَا أَكَلْتَ فَكُلْ حَلاَلاً وَسَمِّ اللَهَ، وَاذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ صَلَّي اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ: مَا مَلاَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرَّاً مِنْ بَطْنِهِ. فَإنْ كَانَ وَلاَبُدَّ فَثُلْثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلْثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلْثٌ لِنَفَسِهِ.
وَأَمَّا اللَوَاتِي فِي الحِلْمِ:
فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً، فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً. وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللَهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي؛ وَإنْ كُنْتَ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُ فَاللَهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ.
وَمَنْ وَعَدَكَ بِالخَنَي فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَالرَّعَاءِ.
وَأَمَّا اللَوَاتِي فِي العِلْمِ:
فَاسْأَلِ العُلَمَاءَ مَا جَهِلْتَ؛ وَإيَّاكَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ تَعَنُّتاً وَتَجْرِبَةً. وَإيَّاكَ أَنْ تَعْمَلَ بِرَأْيِكَ شَيْئاً؛ وَخُذْ بِالاِحْتِيَاطِ فِي جَمِيعِ مَا تَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلاً. وَاهْرَبْ مِنَ الفُتْيَا هَرْبَكَ مِنَ الاَسَدِ؛ وَلاَ تَجْعَلْ رَقَبَتَكَ لِلنَّاسِ جِسْراً!
قُمْ عَنِّي يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! فَقَدْ نَصَحْتُ لَكَ، وَلاَ تُفْسِدْ عَلَيَّ وِرْدِي؛ فَإنِّي امْرُءٌ ضَنِينٌ بِنَفْسِي. «وَالسَّلَـ'مُ عَلَي' مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَي'».
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق