مواضيع المدونة

الأحد، أبريل 22، 2012

فص حكمة علية في كلمة موسوية


 بسم الله الرحمن الرحيم 
اللهم صل على سيدنا محمد و آل سيدنا محمد

نقلت هذا المقال الذي يتكلم عن المقام الموسوي من كتاب شرح فصوص الحكم لسيدي محمد داوود قيصري رومي قدس سره ومعروف صاحب كتاب الفصوص وهو الشيخ الأكبر ابن عربي قدس سره:

فص حكمة علية في كلمة موسوية

إنما اختص موسى، عليه السلام، بالحكمة (العلوية)، لقوله تعالى: (لا تخف إنك أنت الأعلى). فعلى بالحق (1) على من ادعى العلو بقوله: (أنا ربكم الأعلى) ولعلو مرتبته عند الله اختص بأمور: منها أنه تعالى كلمه بلا واسطة الملك. و منها ما جاء في الحديث الصحيح أنه تعالى كتب له التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده، وخلق جنة عدن بيده، وخلق آدم بيديه.
ومنها قرب نسبته من المقام الجامعية التي اختص بها نبينا، صلى الله عليه و سلم.

(1) - فعلا بالحق.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها كثرة أمته. كما جاء في حديث (العرض) في القيامة الكبرى (2) ومنها قوله، عليه السلام: (لا تفضلوني على موسى: فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطشا بقائمة العرش. فلا أدرى أجوزي بصعقة الطور، أو كان ممن استثنى الله تعالى). وبكمالات أخرى يظهر لمن يتأمل في قصته في القرآن.
(حكمة قتل الأبناء من أجل موسى ليعود إليه بالإمداد حياة كل من قتل من أجله. لأنه قتل على أنه موسى، وما ثمة جهل، فلا بد أن يعود حياته على موسى، أعني حياة المقتول من أجله. وهي حياة ظاهرة على الفطرة، ولم يتدنسها الأغراض النفسية، بل هي على فطرة (بلى)، فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنه هو، فكل ما كان مهيئا لذلك المقتول مما كان استعداد روحه له، كان في موسى، عليه السلام.) اعلم، أنه قد مر في المقدمات أن الوجود حقيقة واحدة لا تعدد فيها ولا تكثر، وتتعدد بحسب التجليات والتعينات، فتتكثر وتصير أرواحا وأجساما و معاني روحانية وأعراضا جسمانية. والأرواح منها كلية ومنها جزئية. فأرواح الأنبياء، عليهم السلام، أرواح كلية يشتمل كل روح منها على أرواح من يدخل في حكمه ويصير من أمته، كما أن الأسماء الجزئية داخلة في الأسماء الكلية على ما بينا في فصل الأسماء. وإليه أشار بقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا واحدة لله حنيفا). وإذا كان الأمر كذلك، يجوز أن يتحد بعض الأرواح مع بعض بحيث لا يكون بينهما امتياز، كاتحاد قطرات الأمطار وأنوار الكواكب مع نور الشمس في النهار.
فإذا علمت هذا، فلنرجع إلى المقصود فنقول:
الحكمة في قتل الأبناء على يد فرعون هي أن تعود أرواحهم مع الروح الموسوي ويمدونه في الغلبة على فرعون و قومه، وكل من قتل من الأبناء على أنه موسى رجع مع الروح الموسوي، وأعانه في هلاك فرعون، لتحصل المجازاة والقصاص الذي لا بد منه الوجود.
وقوله: (وما ثمة جهل) معناه أن فرعون كان يقتلهم على أنهم موسى، وما كانوا عين موسى، ولا يقتل الشخص لغيره، كما قال: (ولا تزر وازرة وزر أخرى). والفاعل الحقيقي هو الحق، وهو العليم الخبير، لا يجهل على ما يجرى في وجوده، ولا يفعل إلا ما ينبغي أن يفعل، فقتل الأبناء في المادة الفرعونية على أنها موسى كان لعلمه في الأزل على أنهم يجتمعون مع الروح الموسوي في هلاك فرعون، فما كان الهلاك عن جهل، بل عن علم متقن بما هو الأمر عليه، وإن كان لا يشعر فرعون بذلك تفصيلا، ويشعر به إجمالا، لذلك أمر بقتلهم. فاجتمعت أرواحهم واتحدت، فظهرت بالصورة الموسوية استيفاء لحقوقهم وإعانة لربهم و مددا لنبيهم، إذ كانوا على الفطرة الأصلية والطهارة الأزلية، ما عملوا شيئا يجب به قتلهم. فإذا اتحدت وظهرت في الصورة الموسوية، ظهرت معها جميع ما كانت مهيئا لهم من الاستعدادات والكمالات المترتبة عليها.
(وهذا اختصاص إلهي لموسى لم يكن لأحد من قبله) أي، هذا الاجتماع للإمداد والاتحاد للأرواح اختصاص إلهي لأجل موسى، عليه السلام، ولم يكن ذلك لأحد من الأنبياء، عليهم السلام، قبل موسى.
ولما كان هذا حكمة من جملة الحكم التي خصه الله بها، قال: (فإن حكم موسى كثيرة. وأنا إن شاء الله تعالى أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهي في خاطري.) أي، عينه في قلبي للإظهار.
(فكان هذا أول ما شوفهت به من هذا الباب.) أي، أول ما خوطبت به في المكاشفة من الحضرة المحمدية في هذا الفص الموسوي كان هذا المعنى المذكور، وهو اتحاد أرواح الأبناء المقتولين وعودهم في المادة الموسوية. فالشيخ، رضى الله عنه، مأمور بإظهار هذا المعنى، والمأمور معذور(فما ولد موسى إلا وهو مجموع أرواح كثيرة) باتحاد بعضها مع بعض. و يعلم سر هذا الاتحاد من يعلم كيفية تنزل الأرواح والمعاني من الحضرة العلمية في مراتب الجبروت والملكوت إلى أن يظهر في الصورة المشهودة من عالم الشهادة (جمع) على البناء للمفعول. (قوى فعالة) وإنما قال: فعالة: (لأن الصغير يفعل بالكبير.) أي، في الكبير بالتصرف فيه. (ألا ترى أن الطفل يفعل في الكبير بالخاصية فينزل الكبير من رياسته إليه فيلاعبه) الكبير. (ويزقزق له) أي، يتكلم بلسانه. (ويظهر له بعقله) أي، ينزل إلى مبلغ عقله. (فهو تحت تسخيره، وهو لا يشعر) أي، فالكبير تحت تسخير الطفل ولا يشعر أنه يسخره أو الطفل لا يشعر أنه يسخره (ثم، يشغله) أي، الطفل يشغل الكبير. (بتربيته وحمايته وتفقد مصالحه وتأنيسه حتى لا يضيق صدره. هذا كله من فعل الصغير بالكبير. وذلك لقوة المقام: فإن الصغير حديث عهد بربه، لأنه حديث التكوين، والكبير أبعد، فمن كان من الله أقرب، يسخر من كان من الله أبعد.) لطهارة نفسه ونسبته إلى منبع القوى والقدر، ولهذا كانت الأرواح المجردة فعالة في النفوس الناطقة، وهي في النفوس المنطبعة، وهي في الأجسام.
(كخواص الملك المقرب منه يسخرون الأبعدين) كذلك تصرف الكمل من الأنبياء والأولياء في غيرهم.
(كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يبرز بنفسه للمطر إذا نزل، ويكشف رأسه له) أي، للمطر (حتى يصيب منه، ويقول: إنه حديث عهد بربه. فانظر إلى هذه المعرفة بالله من هذا النبي ما أجلها وما أعلاها وأوضحها. فقد سخر المطر أفضل البشر لقربه من ربه قد فكان مثل الرسول الذي ينزل إليه بالوحي.) أي، كان المطر بالنسبة إليه مثل الملك الذي أرسل إليه بالوحي. فإن الكمل يجدون في جميع ما يدركونه بالحواس الظاهرة معاني نزلت إليهم من الحضرة الإلهية في صور المحسوسات وخصوصا المطر، فإنه صورة العلم النازل من الحضرة والبروز إليه. هو إشارة إلى تلقى الروح الكامل إلى ما يفيض عليه. و (كشف الرأس) إشارة إلى رفعه الموانع عن ظهور الحقائق والعلوم، وإلى أن محل ظهور المعاني الكلية والجزئية الدماغ، كما أن محل حصول الوجدانيات هو القلب.
(فدعاه بالحال بذاته) أي، دعا المطر الرسول بلسان الحال وذاته. (فبرز إليه ليصيب منه ما أتاه به من ربه.) أي، فبرز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المطر ليصيب منه ما أتى المطر به من حضرة ربه من المعاني والأسرار، كالحياة والعلم والرزق وغير ذلك.
وعدى (أتى) بنفسه، كما قال تعالى: (هل أتيك حديث الغاشية). وب‍ (الباء) كما يقال: أتيت زيدا بفلان.
و (من ربه) متعلق ب‍ (أتى). كما يقال: أتيتك بزيد من البصرة. وليس بيانا ل‍ (ما).
(فلولا، ما حصلت له منه الفائدة الإلهية بما أصاب منه ما برز بنفسه إليه.) (الفائدة) عطف بيان (ما). أي، فلولا الفائدة الإلهية التي حصلت له من المطر بواسطة ما أصاب إليه من المطر، ما برز الرسول، صلى الله عليه وسلم، إليه بنفسه.
(فهذه رسالة ماء، جعل الله تعالى منه كل شئ حي. فافهم.) لما كان الماء أصل الأشياء ومظهرا للحياة وحاملا للأسرار الإلهية التي هي فيه بالقوة، جعله رسولا ونبه على كونه أصل كل شئ حي. فافهم.
(وأما حكمة إلقائه في التابوت ورميه في اليم: فالتابوت ناسوته) أي، التابوت إشارة إلى ناسوته. (واليم) إشارة إلى (ما حصل له من العلم بوساطة هذا الجسم مما أعطته القوة النظرية الفكرية والقوى الحسية والخيالية التي لا يكون شئ منها) أي، من تلك القوى. (ولا من أمثالها لهذه النفس الإنسانية إلا بوجود هذا الجسم العنصري.) لأن كل واحدة منها حقيقة برأسها، كالنفس الإنسانية نزلت لخدمتها في هذه النشأة العنصرية وسجدت لها وانقادت بأمر ربها.
(فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرف فيه وتدبيره، جعل الله لها هذه القوى آلات يتوصل بها إلى ما أراده الله منها) أي، من النفس. (في تدبير هذا التابوت الذي فيه سكينة الرب.) وإنما كانت السكينة فيه، لأن الأمور الكلية والمعاني الحقيقة لا تزال تتحرك بالمحبة الذاتية إلى أن تصل إلى الحضرة الشهادية و تدخل تحت الاسم (الظاهر)، فيجد السالك فيها المعاني بصورها ويسكن إليها.
لذلك كانت المحسوسات أجلى البديهيات. فاليقين والعلم الذوقي والإيمان الغيبي والتجلي الشهودي لا يحصل إلا في هذه الحضرة وبواسطتها، لذلك صارت الدنيا مزرعة الآخرة فصارت سكينة الرب * (فرمى به في اليم ليحصل بالقوى) المذكورة (على فنون العلم.) أي، ليكون بها مستعليا على أنواع العلوم الحاصلة بالحواس الظاهرة والباطنة. يقال: حصل فلان على عرشه. إذا استعلى عليه.
(فأعلمه) أي، الحق. (بذلك) أي، بذلك الرمي موسى بوضعه في التابوت وإلقائه في اليم (4) (أنه) أي، الشأن. (وإن كان الروح المدبر له هو الملك، فإنه لا يدبره إلا به.) أي، فإن الروح المدبر له لا يدبره إلا بواسطة هذا التابوت.
(فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا الناسوت الذي عبر عنه ب‍ (التابوت) في باب الإشارات والحكم.) على صيغة الجمع. أي، جعل الله الروح مصاحبا لهذه القوى الحالة في البدن الذي عبر الحق سبحانه عنه ب‍ (التابوت) في باب الإشارة، أي، هذا المقول (5) ثابت في باب الإشارة الربانية والحكم الإلهية.
(كذلك تدبير الحق العالم: فإنه ما دبره إلا به. أو بصورته.) أي، بالعالم. إذ لو لا الأعيان القابلة للتدبير، ما كان التدبير، ومن تدبير الحق العالم بالعالم، جعل بعضها متوقفا على البعض كتوقف المسببات على أسبابها.
والمراد بقوله: (أو بصورته) الأعيان الثابتة التي هي الصور العلمية للعالم، كما فسره من بعد وجعل الأعيان عين الأسماء الحسنى. ولو لا تفسيره، رضى الله عنه، قوله: (أو بصورته) بما ذكر، لفسرناه بالإنسان الكامل. فإنه على صورة الحق وصورة العالم. وكان حسنا.
فشبه تدبير الحق للعالم بتدبير الروح للبدن، فكما أن الروح يدبر بدنه بعين البدن - إذ لو لا الأعضاء البدنية وقواها ما كان يحصل التدبير - كذلك الحق روح العالم يدبر العالم بعين العالم وكما أن الروح يدبر لبدنه بقواه، كذلك الحق يدبر العالم بأسمائه وصفاته. فنسبة الحق إلى العالم ونسبة العالم إليه كنسبة الروح إلى البدن ونسبة البدن إلى الروح.
(فما دبره إلا به) أي، ما دبر الحق العالم إلا بالعالم. (كتوقف الولد على إيجاد الوالد، والمسببات على أسبابها والمشروطات على شروطها والمعلولات على عللها والمدلولات على أدلتها والمحققات) على صيغة المفعول (على حقائقها. وكل ذلك من العالم.) أي، جعل بعضها واسطة في تدبير البعض الآخر وسببا. (وهو  تدبير الحق فيه، فما دبره إلا به) وضمير (هو) عائد إلى (التوقف). أي، جعله بعض العالم موقوفا على البعض، تدبير من الحق في العالم، فما دبر الحق العالم إلا بالعالم.
(وأما قولنا: (أو بصورته) - أعني صورة العالم - فأعني به) أي، بقولنا صورة العالم. (الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تسمى الحق بها واتصف بها) أطلق الأسماء على الأعيان التي هي صور الأسماء في العلم، وهي النسب المعنوية، كما مر مرارا. فالحق يفيض المعاني على الأعيان القابلة لها بواسطة أسمائه وصفاته التي هي النسب العقلية، ويدبر بواسطة الأعيان العلمية الأرواح الخارجية، و بواسطتها النفوس المنطبعة، وبها الأبدان الشخصية. فالأعيان أرواح للأرواح، وهي (7) لها كالأبدان للأرواح. كما مر في المقدمات. فتظهر ربوبية الرب في جميع مراتب الوجود، فما دبر العالم إلا بالعالم.
(فما وصل إلينا من اسم تسمى به وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم. فما دبر العالم أيضا إلا بصورة العالم.) معنى (الاسم) وروحه الصفة التي هي المميزة له عن غيره. وجميع الصفات التي هي أرواح الأسماء الواصلة إلينا، من الحياة والعلم والإرادة والقدرة وغير ذلك، حاصلة في العالم، ثابتة له، والأسماء والصفات من حيث تكثرها وامتيازها عن الذات الأحدية ملحقة بالعالم، فصح أنه تعالى ما دبر العالم إلا بالعالم.
(ولذلك) أي، ولأجل أنه تعالى دبر العالم بالعالم، جعل آدم خليفة على العالم ودبر العالم به. (قال في حق آدم الذي هو البرنامج) (البرنامج) فارسي معرب أصله: (البرنامه). و (بر) بالفارسية هو (الصدر). أي، صدر المكتوب.
والمراد به (الأنموذج) وهو أيضا معرب (نمودار) بالفارسية (8) (الجامع لنعوت  الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال (إن الله خلق آدم على صورته). و ليست صورته) أي، صورة الحق (سوى الحضرة الإلهية) وهي حضرة الأسماء والصفات.
(فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية) التي هي النسب الذاتية (وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل، و جعله روحا للعالم، فسخر له العلو والسفل لكمال الصورة.) التي خلقه الله عليها.
وإنما قال: (وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير) لأن جميع ما في العالم ليست موجودة في الإنسان بحسب صورها، بل بحسب حقائقها وأعيانها التي هي بها هي.
(فكما أنه ليس شئ في العالم إلا وهو يسبح الله بحمده، كذلك ليس شئ في العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته.) إنما شبه تسخر العالم للإنسان بتسبيحه وتحميده للحق، لأن تسخره للإنسان عبادة منه له، و تلك العبادة يستلزم التنزيه والتحميد، لأنه بعبادته للإنسان يوصل الهوية الإلهية الظاهرة في الصورة الإنسانية إلى الكمال الحقيقي والمقام الجمعي الإلهي، وهو عين التنزيه من النقائص والاتصاف بالمحامد. فكأنه قال: فكما أنه يسبح للحق سبحانه، كذلك هو يسبح الخليفة الذي هو الإنسان. وفي الحقيقة تنزيهه للإنسان وتسبيحه له، أيضا تنزيه للحق وتسبيح له. ولا يعطى هذا التسخير إلا حقيقة الصورة الإنسانية، لأن لها مقام الجمع الإلهي، وجميع الأسماء سدنة ربه الذي هو الاسم الأعظم، فمظاهرها أيضا مسخرة له.
ثم، استشهد بالآية تأنيسا للمحجوبين وتنبيها للطالبين: (فقال: (و سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه). فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان، علم ذلك من علمه - وهو الإنسان الكامل -) إذ هو الذي يعلمه بالكشف والعيان والذوق والوجدان (وجهل ذلك من جهله، وهو الإنسان) صورة (الحيوان) معنى.
(فكانت صورة إلقاء موسى في التابوت، وإلقاء التابوت في اليم، صورة هلاك في الظاهر، وفي الباطن كانت نجاة له من القتل.) إذ كان خلاصه من فرعون بذلك.
(فحيى) موسى بالإلقاء في اليم، (كما تحيى النفوس بالعلم من موت الجهل.) إنما شبه الحياة الحسية الموسوية الباقية بواسطة اليم بالحياة العقلية الحاصلة بالعلم تنبيها على أن الماء صورة العلم الذي به حياة النفوس، كما أن حياة الأبدان بالماء الذي منه كل شئ حي.
ثم، استشهد بالآية وفسرها بمقتضى الباطن بقوله: (كما قال تعالى: (أو من كان ميتا). يعنى بالجهل. (فأحييناه) يعنى، بالعلم. (وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) وهو الهدى. (كمن مثله في الظلمات) وهي الضلال. (ليس بخارج منها) أي، لا يهتدى أبدا.) أي، العالم بالحقائق لا يكون كالجاهل بها. ثم، علل قوله: (لا يهتدى أبدا) بقوله: (فإن الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها.) (9) أي، فإن الأمر الإلهي لا نهاية له ليقف عنده. أي، الذي في الظلمات لا يخلص من الضلال ولا يهتدى أبدا. أي، الضال الحائر من الجهالة لا يحصل له العلم بالحقيقة.
ولما فسر (الضلال) في مواضع من قبل ب‍ (الحيرة) - والحيرة قد تحصل من العلم، كما يحصل من الجهل، فيقع الضلال أيضا للعالم، كما يقع للجاهل - أراد أن يفرق بينهما فقال: (فالهدى هو أن يهتدى الإنسان إلى الحيرة، فيعلم أن الأمر حيرة) وإنما جعل الاهتداء إلى الحيرة عين الهداية، لأن الحيرة الحاصلة من الهداية والعلم إنما يحصل من شهود وجود التجليات المتكثرة المحيرة للعقول والأوهام و ظهور الأنوار الحقيقة العاجزة عن إدراكها البصائر والأفهام، وذلك عين الهداية.
لذلك قال أكمل البشر (رب زدني فيك تحيرا). أي هداية وعلما. فإن وجود اللازم يستلزم وجود الملزوم. بخلاف الحيرة الحاصلة من الجهل، فإنها الحيرة المذمومة. لذلك جعل الضلال الموجب للحيرة المذمومة في مقابلة الهدى الموجبة للحيرة المحمودة (والحيرة قلق وحركة) أي، تعطى القلق والاضطراب (والحركة حياة). أي، يستلزم الحياة. لأن الحركة لا تحصل إلا من الحي.
(فلا سكون، فلا موت،) أي، فإذا كانت الحركة حاصلة دائما، فلا سكون لمن يتحرك، وإذا لم يكن له السكون، فلا موت له، لأن السكون من لوازم الموت. ألا ترى أن سكون النبض كيف يصير علامة للموت.
(ووجود، فلا عدم) عطف على قوله: (حياة). أي، الحركة حياة و وجود. وإذا كانت الحركة مستلزمة للوجود، فلا عدم، لأنهما لا يجتمعان في محل واحد. والحاصل أن الهداية تعطى البقاء الأبدي.
(وكذلك في الماء الذي به حياة الأرض) أي، كما أن الحياة العلمية تعطى الهداية والسير في الناس (10) فتؤدى إلى البقاء الأبدي (11)، كذلك الأمر في الماء الطبيعي الذي به حياة الأرض، وهي البدن (وحركتها قوله: (واهتزت)) أي 

(١٠) - قوله: (والسير في الناس) إشارة إلى قوله تعالى: (وجعلنا له نورا يمشى به في الناس). و نظرا إلى الآية المباركة يندفع استبعاد بعض المحشين. (ج) (١١) - وليعلم أن الأمر الوجودي لا نهاية له، فإنه حقيقة واحدة ذات كمالات وصفات وأسماء فوق التناهي بما لا يتناهى. فإذا جهل الضال الحائر في أمر الوجود ولم يعلم وحدته، و زعم الأرض مثلا، التي هي تجل من تجلياته، أنها وجود مبائن له، فهو إذا جاهل بحقيقة ظهور من ظهوراته. ولما كان (كل يوم هو في شأن) فالجاهل الحائر كل يوم هو في شأن من الجهل قد ولما كان شؤون الوجود إلى غير النهاية، كان شؤون الجهل للجاهل إلى غير النهاية. ومن هنا ظهر وجه الحيرة للعالم. فاقرأ وارقأ. (ج)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


فالإشارة إلى حركتها، أي إلى حركة الأرض التي هي البدن الإنساني، قوله:
(فاهتزت) في قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت وأنبتت من كل زوج بهيج).
(وحملها قوله: (وربت).) أي، الإشارة إلى حملها، أي حمل الأرض التي هي البدن، قوله: (وربت). أي ازدادت.
(وولادتها) أي، والإشارة إلى ولادة الأرض المذكورة. (قوله: (وأنبتت من كل زوج بهيج). أي، أنها) أي، أن الأرض (ما ولدت إلا من يشبهها، أي طبيعيا مثلها. فكانت الزوجية التي هي الشفعية لها) أي، الأرض البدن. (بما تولد منها وظهر عنها.) أي، كما حصلت الزوجية التي هي المسماة ب‍ (الشفعية) بواسطة ما تولد منها وظهر عنها (كذلك وجود الحق كانت الكثرة له، وتعداد الأسماء أنه كذا وكذا بما ظهر عنه من العالم الذي يطلب بنشأته (12) حقائق الأسماء الإلهية.) أي، كذلك الكثرة حصلت لوجود الحق بواسطة ما ظهر منه من وجود العالم، لأنه يطلب بحقيقته ونشأته المرتبية حقائق الأسماء الإلهية، وهي الأرباب المتكثرة.
(فثبت به وبخالقه أحدية الكثرة.) أي، فثبت بالعالم والحق الذي هو خالقه، أي بهذا المجموع، أحدية الكثرة. كما مر في (الفص الإسماعيلي) أن مسمى الله أحدي بالذات كل بالأسماء والصفات.
وصحف بعض الشارحين قوله: (وبخالقه) وقرأ (يخالفه) من (الخلاف). وهو خطأ (13)

(12) - أي، بنشأته التي هي الحاملة للقوابل. (ج) (13) - أراد من (بعض الشارحين) أستاذه العريف في هذا العلم، أي علم المكاشفة، حيث قال، مولانا، عبد الرزاق الكاشاني. في بعض النسخ: (فثبتت به ويخالفه ويخالفه أحدية الكثرة). ومعناه: ثبتت حقائق الأسماء الإلهية، أي، تعينت من ذات الوجود المطلق بالعالم المتقرر في العدم الواقعي في حضرة الإمكان والواحدية بالتحقق الثبوتي، وطلب من الأسماء أو الحق الوجود والظهور باللسان الثبوتي - على اصطلاحهم. وأجاب الحق طلب الأعيان وأظهرها بالوجود الساري والنفس الرحماني بوساطة الأسماء، وقد تكثر الوجود بإضافته إلى الأعيان، وظهر أثر الأسماء في الأعيان. ويخالفه، أي العالم أو الأعيان المبدأ للكثرة، أحدية الكثرة، وأن العالم قبل ظهوره بوصف الكثرة أحدي العين.
ومما ذكرناه يظهر أنه لا إشكال ولا تصحيف من الشارح الكاشاني بناء على النسخة التي كتب فيها: (يخالفه). وقال المحقق الكاشاني (رض): (قوله: (يثبت به) أي، بالعالم.
والمعنى أنه كما شفعت المواليد من الثمرات... كذلك كثرة الأسماء شفعت أحدية وجود الحق، فإن الأسماء تعينت للوجود الحق بالعالم، إذ هو المربوب المألوه المقتضى وجود الإلهية والربوبية، وهما لا يكونان إلا بالأسماء. قوله: (ويخالفه أحدية جمع الكثرة) أي، و يخالف ما ظهر منه من العالم أحدية الكثرة التي له لذاته). هذا ما ذكره الشيخ العارف المكمل، أبو الغنائم، ملا عبد الرزاق، في شرحه. (ج)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(وقد كان أحدي العين من حيث ذاته، كالجوهر الهيولاني أحدي العين من حيث ذاته، كثير بالصور الظاهرة فيه الذي هو حامل لها بذاته.) أي، وقد كان الخالق أحدي العين من حيث ذاته، كثيرا من حيث أسمائه وصفاته، كما أن الجوهر الهيولاني الحامل لصور الأشياء كلها أحدي بالذات، كثير بالصور الظاهرة فيه (كذلك الحق بما ظهر منه من صور التجلي.) أي، كذلك الحق أحدي من حيث ذاته، كثير بسبب ما ظهر منه من صور تجلياته التي هي الأسماء والصفات.
(فكان) الحق. (مجلي صور العالم مع الأحدية المعقولة.) وذلك باعتبار أن ذاته مرآة تظهر فيها صور الأعيان العلمية والعينية.
(فانظر ما أحسن هذا التعليم الإلهي الذي خص الله بالاطلاع عليه من شاء من عباده.) (التعليم الإلهي) إشارة إلى قوله تعالى: (اتقوا الله يعلمكم الله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب). فمن اتقى ولم يثبت لغيره وجودا، يستحق بأمثال هذه اللطائف والمعارف.
(ولما وجده آل فرعون في اليم عند الشجرة، سماه فرعون (موسى). و (المو) هو (الماء) بالقبطية. و (السا) هو الشجر، فسماه بما وجده عنده: فإن التابوت وقف عند الشجر في اليم. فأراد قتله. فقالت امرأته - و كانت منطقة بالنطق الإلهي -) أي، كانت ممن أنطقه الله بالنطق الإلهي من غير اختيارها، كما قال تعالى من لسان الأعضاء: (أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ). وكانت مؤيدة من الله (فيما قالت لفرعون إذ كان الله تعالى خلقها للكمال كما قال، عليه السلام، عنها حيث شهد لها و لمريم بنت عمران بالكمال الذي هو للذكران) أي، بحسب الغلبة. وهو إشارة إلى قوله، عليه السلام: (كملت من النساء أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة، وفاطمة، رضى الله عنهن). ولهذا الكمال قال تعالى في مريم: (وكانت من القانتين). فجعلها في زمرة الرجال. وصرح الشيخ في الفتوحات، في باب الأولياء: (إن هذه المقامات ليست مخصوصة بالرجال، فقد تكون للنساء أيضا، لكن لما كانت الغلبة للرجال، تذكر باسم الرجال.
(فقالت لفرعون في حق موسى إنه (قره عين لي ولك). فيه) أي، في موسى (قرت عينها بالكمال الذي حصل لها كما قلناه. وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله له عند الغرق.) وذلك لأن الحق تكلم بلسانها من غير اختيارها وأخبر بأنه قرة عين لها ولفرعون، فوجب أن يكون كذلك في نفس الأمر.
(فقبضه) أي، الحق. (طاهرا مطهرا، ليس فيه شئ من الخبث، لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام - والإسلام يجب ما قبله - وجعله آية على عنايته سبحانه بمن شاء حتى لا ييأس أحد من رحمة الله. فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. فلو كان فرعون ممن ييأس، ما بادر إلى الإيمان.) لما كان إيمان فرعون في البحر، حيث رأى طريقا واضحا عبر عليه بنوا إسرائيل، قبل التغرغر وقبل ظهور أحكام الدار الآخرة له مما يشاهدونه عند الغرغرة، جعل إيمانه صحيحا معتدا به، فإنه إيمان بالغيب، لأنه كان قبل الغرغرة. وهو بعينه كإيمان من يؤمن عند القتل من الكفار. وهو صحيح من غير خلاف (14) وإنما كان إيمان المتغرغر غير صحيح لظهور أحكام الدار الآخرة

(14) - يجب علينا ذكر الآيات الكريمة التي استدل بها من يزعم أن الشيخ أخطأ في مسألة إيمان الفرعون. (ج)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

له، من النعيم والجحيم والثواب والعذاب.
وجعله (طاهرا مطهرا) من الخبث الاعتقادي، أي، من الشرك ودعوى الربوبية، لأن الإسلام يجب ما قبله - كما جاء في الخبر الصحيح - ولم يكتسب بعد الإيمان شيئا من الآثام والعصيان.
وقوله تعالى: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين). أي، آمنت الان، وكنت من العاصين المفسدين من قبل، نوع من العتاب عند التوجه إلى الحق والإيمان به. وهو لا ينافي صحة إيمانه.
وما جاء من قوله: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود). الضمير (القوم) و (المورد) الذي هو فرعون، لا يجب دخوله فيهم.
وقوله: (واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود). وقوله: (و أتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين). الضمير (القوم) و (اللعنة) ودخول النار لا ينافي الإيمان، لأن اللعنة هي البعد، وهي تجتمع مع الإيمان. كما في المحجوبين والعصاة والفسقة من المسلمين. والورود في النار ليس مخصوصا بهم، بل عام شامل للكل، كما قال: (وإن منكم إلا واردها). فهو لا ينافي الإيمان.
وليس بكفر فرعون بعد إيمانه نص صريح فيه. وما جاء فيه كان حكاية عما قبل. وقوله: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب). صريح في آله، لا في فرعون.
وفائدة إيمانه، على تقدير التعذيب، عدم الخلود في النار. والتعذيب بالمظالم وحقوق العباد، مما لا يرتفع بالإسلام، لا ينافي أيضا الإيمان والطهارة من الشرك و خبث العقيدة. فلا ينكر على الشيخ ما قاله مع أنه مأمور بهذا القول، إذ جميع ما في الكتاب مسطور بأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، فهو معذور. كما أن المنكر المغرور معذور (15) وقوله: (وجعله آية على عنايته) إشارة إلى قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية). وهذا أيضا صريح في نجاته، لأن (الكاف) خطاب له. أي، ننجيك مع بدنك من العذاب، لوجود الإيمان الصادر منك بعد العصيان. والله أعلم بالسرائر من كل مؤمن وكافر.
(فكان موسى، عليه السلام، كما قالت امرأة فرعون فيه: (إنه قرة عين لي ولك عسى أن ينفعنا). وكذلك وقع: فإن الله نفعهما به، عليه السلام، وإن كانا) أي، فرعون وامرأته. (ما شعرا بأنه هو النبي الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون و هلاك آله. ولما عصمه الله من فرعون: (أصبح فؤاد أم موسى فارغا). من الهم الذي كان قد أصابها.) ظاهر.
(ثم، إن الله حرم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمه، فأرضعته، ليكمل الله لها سرورها به.) أي، من جملة الاختصاصات والنعم التي كان في حق موسى و أمه أن الله حرم عليه المراضع حتى لا يقبل إلا ثدي أمه، فإن الطفل لا يوافقه شئ مثل لبن أمه. فجعل رضاعته وربوبيته على يد أمه ليكمل الله لها سرورها بولدها.
(كذلك علم الشرائع، كما قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا).
أي، طريقا ومنهاجا من تلك الطريقة جاء. فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي منه جاء.) ولما كان اللبن صورة العلم - كما أوله رسول الله، صلى الله عليه و سلم، في رؤياه به - مثل وشبه تعليم الشرائع بتحريم المراضع. أي، كما حرم أن لا يشرب موسى لبن أحد غير أمه التي هي أصله، كذلك علم الشرائع من لدنه، وجعله نبيا صاحب شريعة غير متابع لشريعة غيره، فكان يأخذ الشريعة والعلم من الله منبع العلوم ومحتد الشرائع، وكان يكلمه كفاحا، (16) أي، من غير حجاب.
ثم، استدل بقوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا). وفسر (الشرعة) بالطريق، و (المنهاج) أيضا هو الطريق. لكن لما يوقف عليه، يصير منهاجا، فشبهه بالكلمتين: إحديهما: (منها)، والآخر: (جاء). فأخذ عليهما وفسر بقوله: أي من تلك الطريقة جاء. فصار قوله منهاجا إشارة إلى الأصل الذي منه جاء ونزل إلى هذا العالم، وليس إلا الحق، فإنه منه بدأ كل شئ وإليه يعود، فهو المبدأ والمعاد. (فهو غذاؤه، كما أن فرع الشجرة لا يتغذى إلا من أصله.) أي، فالأصل الذي منه جاء موسى وحصل في هذه النشأة العنصرية هو غذاؤه، لا يتغذى إلا منه. أي، لا يستفيض المعاني وما به قوامه ولا يجد المدد إلا من أصله، كما أن فرع الشجرة لا يتغذى ولا يجد المدد إلا من أصله.
ولما جعل الأصل غذاءا للفرع، والغذاء قد يكون حلالا وقد يكون حراما، نقل الكلام إليهما بقوله: (فما كان حراما في شرع، يكون حلالا في شرع آخر، يعنى في الصورة: أعني قولي يكون حلالا. وفي نفس الأمر ما هو عين ما مضى، لأن الأمر خلق جديد ولا تكرار. فلهذا نبهناك.) أي، الذي كان حراما في شريعة ثم صار حلالا في شريعة أخرى، أو بالعكس، ليس إلا بحسب الصورة. وأما في نفس الأمر، فليس هذا الحلال عين ما كان حراما، لأن الخلق لا يزال جديد ولا يقع التكرار في التجلي أبدا. (فكنى عن هذا في حق موسى بتحريم المراضع.) (عن هذا) إشارة إلى قوله: (كذلك علم الشرائع.) أي، كنى عن علم الشرائع في حق موسى بتحريم المراضع، أي، أرضعته أمه الحقيقي التي ولدته، لا غيرها.
وإرضاعها إشارة إلى ربوبية الذات الإلهية بإعطائه العلم الشرعي ليجعله نبيا بين عباده.
وتحريم إرضاع غير أمه، إشارة إلى عدم تحققه بعلوم ما يتعلق بالولاية و أسرار الباطن، إذ كان الغالب عليه علوم ما يتعلق بالنبوة والظاهر، لذلك قال له الخضر، عليه السلام: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا).
وقيل: قال له الخضر: إن الله قد أعطاك علما لم يعطني إياه (وهو علم الظاهر)، وأعطاني علما لم يعطك إياه. (وهو علم الباطن).
(فأمه) أي، فأم الولد. وليس المراد به موسى، لأنه ما أرضعته غير أمه، بل أورده تحقيقا لحق المرضعة على الولد. لذلك قال: فجعل الله ذلك لموسى في أم ولادته بعد هذا التحقيق (على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته، فإن أم الولادة حملته على جهة الأمانة، فتكون فيها وتغذى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك حتى لا يكون لها عليه امتنان، فإنه ما تغذى إلا بما أنه لو لم يتغذ به ولم يخرج عنها ذلك الدم، لأهلكها وأمرضها. فللجنين المنة على أمه بكونه تغذى بذلك الدم فوقاها بنفسه من الضرر الذي كانت تجده لو امتسك ذلك الدم عندها ولا يخرج ولا يتغذى به جنينها. والمرضعة ليست كذلك، فإنها قصدت برضاعته حياته) أي، قصدت برضاعها للولد حياته. فالإضافة إضافة إلى المفعول.
(وإبقائه. فجعل الله ذلك (17) لموسى في أم ولادته، فلم يكن لامرأة عليه فضل إلا لأم ولادته، لتقر عينها أيضا بتربيته وتشاهد انتشائه في حجرها، (ولا تحزن) و

(17) - الإرضاع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نجاه الله من غم التابوت.) أي، من هم بدنه للخلاص من الهلاك.
(فخرق ظلمة الطبيعة بما أعطاه الله من العلم الإلهي، وإن لم يخرج عنها) أي، خرق حجاب الطبيعة الظلمانية بالعلم الحاصل لروحه من الحضرة الإلهية، و حصل في العالم النوراني - كما أشار إليه بقوله: (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى). - وإن لم يخرج عن الطبيعة بالكلية وأحكامها (وفتنه فتونا.) إشارة إلى قوله تعالى: (وفتناك فتونا). (أي، اختبره في مواطن كثيرة، ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتلاه الله به.) ويصير ذلك سببا لكمالاته.
(فأول ما ابتلاه الله به قتله القبطي بما ألهمه الله ووفقه له في سره وإن لم يعلم بذلك، ولكن لم يجد في نفسه اكترائا بقتله) أي، قتله القبطي إنما كان بأمر الله و إلهامه على قلبه وتوفيقه له بذلك في سره، ولكن ما علم موسى بذلك، لذلك نسبه إلى الشيطان بقوله: (هذا من عمل الشيطان). ولكن لم يجد في نفسه اكترائا بقتله، أي، مبالاة والتقاتا إليه (مع كونه ما توقف حتى يأتيه أمر ربه بذلك) (ما) للنفي. أي، ما صبر حتى يأتيه الأمر الإلهي والوحي في ذلك، لأنه ما قتله بنفسه، بل قتله الحق على يده من غير اختياره. كما قال لنبيه، صلى الله عليه وسلم: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (18) وقال الخضر، عليه السلام: (ما فعلته عن أمري).
وقوله: (لأنه النبي معصوم الباطن من حيث لا يشعر حتى ينبأ، أي، يخبر بذلك.) (19) دليل قوله: (فأول ما ابتلاه الله به قتله القبطي بما ألهمه الله) أي، قتله

(18) - نفى اختيار العبد مخالف لما حققه الشيخ (رض). وفي الكريمة نفى (الرمي) في عين إثباته، وقال، عز من قائل: (ما رميت إذ رميت). نفى الرمي، ثم أثبت، ولكن راعى جهة غالبية أمر الحق، لأنه غالب على أمره. وللعبد على حد وجوده إرادة واختيار وعلم، و له تصديق برجحان الفعل وينبعث عنه الإرادة. وإرادته واختياره كعلمه ووجوده تكون من أظلال إرادة الحق وعلمه، وإرادته وقدرته أيضا من النسب الإشراقية لذاته المقدسة الأحدية. والجبري إما جاهل، أو متجاسر ولا يراعى الأدب مع الحق. (ج) 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالأمر الإلهي، وإن لم يعلم ذلك، لأن النبي معصوم من الكبائر في الباطن، لكنه لا يشعر على أنه قتله بالأمر الإلهي حتى يخبر به.
(ولهذا) أي، ولهذا الشعور والاطلاع (أراه الخضر، عليه السلام، قتل الغلام، فأنكر عليه قتله ولم يتذكر قتله القبطي. فقال له الخضر: (ما فعلته عن أمري). ينبهه على مرتبته قبل أن ينبأ أنه كان معصوم الحركة في نفس الأمر، وإن لم يشعر بذلك. وأراه أيضا خرق السفينة التي ظاهرها هلاك وباطنها نجاة من يد الغاصب. جعل له ذلك في مقابلة التابوت الذي كان له في اليم مطبقا عليه: فظاهره هلاك وباطنه نجاة.) أي، الخضر إنما أراده قتل الغلام وقال: (ما فعلته عن أمري) لينبه موسى، عليه السلام، على أن قتله القبطي أيضا كان كذلك بالأمر الإلهي، لا من الشيطان ونفسه، بل هو نبي معصوم عن الكبائر. وأراه خرق السفينة التي ظاهرها هلاك وباطنها نجاة من الغاصب في مقابلة التابوت الذي كان له في اليم.
فإن خرق ظلمة هذه الطبيعة والبدن بالتوجه إلى الله وقهر النفس في الموت الإرادي، وبالأمراض والمحن في الموت الطبيعي، وإن كان ظاهره مشعرا بالهلاك، ولكن باطنه عين النجاة.
(وإنما فعلت به أمه ذلك خوفا من يد الغاضب فرعون أن يذبحه ضيرا وهي تنظر إليه) قوله: (ضيرا) ب‍ (الضاد) المعجمة و (الياء) المنقوطة من تحت بنقطتين، أي خوفا من أن يذبحه ذبحا مشتملا على الضرر العظيم لأمه، لأن ذبح الولد على نظر أمه أشد إيلاما للأم من ذبحه على غير نظرها.
في بعض النسخ: (صبرا) ويلائمه قوله: (مع الوحي) أي، وإنما فعلت ما فعلت بالوحي (الذي ألهمها الله به من حيث لا تشعر. فوجدت في نفسها أنها ترضعه) أي، علمت بالوجدان بأنها ترضعه وتربيه (فإذا خافت عليه، ألقته في اليم، لأن في المثل (عين لا ترى قلب لا يفجع) فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر، وغلب على ظنها أن الله ربما رده إليها لحسن ظنها به.) أي بالله. (فعاشت بهذا الظن في نفسها، والرجاء يقابل الخوف واليأس. و قالت حين ألهمت لذلك: لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يديه.
فعاشت وسرت بهذا التوهم والظن بالنظر إليها.) أي، كون هذا المعنى توهما وظنا إنما هو بالنظر أي بالنسبة إلى أم موسى، لا بنفس الأمر، لذلك قال: (وهو علم) أي، ذلك التوهم والظن كان علما (في نفس الأمر.) (ثم، إنه لما وقع عليه الطلب، خرج فارا، خوفا في الظاهر، وكان في المعنى حبا في النجاة، فإن الحركة أبدا إنما هي حبية. ويحجب الناظر فيها بأسباب أخر، و ليست تلك.) أي، ومن جملة العناية الإلهية أن موسى خرج فارا من خوف القتل، وكان ذلك الفرار في الحقيقة حبا في الحياة والنجاة من الهلاك. ثم، بين أن الحركة لا تحصل أبدا إلا عن محبة، وإن كان في الظاهر لها أسباب أخر، كالخوف والغضب وغير ذلك، فيحجب من يعلم الحقائق بالأسباب الظاهرة و يسندها إليها، وليست أسبابها في الحقيقة تلك الأسباب الظاهرة.
قوله: (ويحجب) مبنى للمفعول.
(وذلك لأن الأصل حركة العالم من العدم الذي كان ساكنا فيه إلى الوجود - و لذلك يقال إن الأمر حركة عن سكون - فكانت الحركة التي هي وجود العالم حركة الحب. وقد نبه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ذلك.) رواية من الله تعالى.
(بقوله: (كنت كنزا مخفيا، لم أعرف فأحببت أن أعرف). فلولا هذه المحبة، ما ظهر العالم في عينه.) أي، وجوده العيني. (فحركته من العدم إلى الوجود حركة حب الموجد لذلك) أي، لوجود العالم، إذ به تظهر كمالات ذاته وأنوار أسمائه و صفاته (ولأن العالم أيضا يحب شهود نفسه وجودا، كما شاهدها ثبوتا، فكانت بكل وجه حركته من العدم الثبوتي إلى الوجود العيني حركة حب من جانب الحق و جانبه.) أي، من جانب العالم: (فإن الكمال محبوب لذاته) وهو لا يظهر إلا بالوجود العيني (وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غنى عن العالمين هو له. وما بقى إلا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من هذه الأعيان أعيان العالم إذا وجدت. فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقديم، فتكمل مرتبة العلم بالوجهين.) هذا جواب عن سؤال مقدر. وهو أن يقال: الحق، سبحانه و تعالى، قديم، عالم بذاته وبكمالاته كلها، فهي حاصلة له قبل الظهور و وجود العالم في العين، فما فائدة الظهور؟
فقال: علمه بذاته من حيث غنائه عن العالمين حاصل له أزلا وأبدا، لكن تمام مرتبة العلم هو العلم في صور المظاهر الذاتية، وهو العلم الحادث الذي يظهر في الأعيان عند وجودها. وهو المشار إليه بقوله تعالى: (لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه).
(وكذلك يكمل مراتب الوجود: فإن الوجود منه أزلي، ومنه غير أزلي، و هو الحادث. فالأزلي وجود الحق لنفسه، وغير الأزلي وجود الحق بصورة العالم الثابت، فيسمى حدوثا لأنه يظهر بعضه لبعضه، وظهر لنفسه بصور العالم. فكمل الوجود، فكانت حركة العالم حبته للكمال. فافهم.) أي، كما قلنا في العلم، كذلك نقول في الوجود وجميع مراتبه ولوازمه، لأن الوجود أزلي وغير أزلي:
والأزلي هو الوجود عينه مع كمالاته، وغير الأزلي هو الوجود المتعين بتعينات خاصة ظاهرة على صور الأعيان الثابتة. والأول قديم، والثاني حادث، فكمل الوجود ومراتبه بالعالم، فظهر أن حركة العالم حبية.
(إلا تراه كيف نفس عن الأسماء الإلهية ما كانت تجده من عدم ظهور آثارها في عين مسمى العالم) أي، ألا ترى الحق كيف نفس عن أسمائه الإلهية ما كانت تجد الأسماء الإلهية من الكرب حين عدم الظهور بكمالاتها في أعيان العالم (فكانت الراحة محبوبة لها) أي، للحق. (ولم يوصل إليها إلا بالوجود الصوري) أي، الظاهر الشهادي (الأعلى والأسفل. فثبت أن الحركة كانت للحب.) أي، ثبت أن أصل الحركة وحقيقتها حصلت من الحب (فما ثمة حركة في الكون إلا وهي حبية.) لأن الجزئي مشتمل على كليه.
(فمن العلماء من يعلم ذلك) وهو العالم بالحقائق (ومنهم من يحجبه السبب الأقرب) وهو العالم بالأحكام، لا بالحقائق الناظر في الأسباب الظاهرة (لحكمه في الحال واستيلائه على النفس) أي، لغلبة حكم ذلك السبب القريب واستيلائه على نفس المحجوب.
(فكان الخوف لموسى، عليه السلام، مشهودا له بما وقع من قتله القبطي، (20) و تضمن الخوف حب النجاة من القتل. فقر لما خاف) في الظاهر (وفي المعنى ففر لما أحب النجاة من فرعون وعمله.) لأنه ما كان على طريق الحق (به) أي، بالفرار حصل النجاة من فرعون وعمله. لذلك قال له شعيب، صلوات الله عليه: (لا تخف نجوت من القوم الظالمين). تنبيها لسبب حركته.
(فذكر) موسى (السبب الأقرب المشهود له في الوقت) أي، في وقت الملاقاة معه (الذي هو كصورة الجسم للبشر. وحب النجاة تضمن فيه تضمين الجسد للروح المدبر له.) قوله: (الذي) صفة (السبب الأقرب). أي، هو كالصورة، وحب النجاة مدرج فيه كالروح، كما أن الصورة الجسمية متضمنة لروحها (والأنبياء، صلوات الله عليهم لهم لسان الظاهر به يتكلمون لعموم أهل الخطاب، واعتمادهم على فهم السامع العالم. فلا تعتبر الرسل، عليهم السلام، إلا العامة، لعلمهم بمرتبة أهل الفهم، كما نبه، عليه السلام، على هذه الرتبة في العطايا، فقال: (إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلى منه، مخافة أن يكبه الله في النار).) تقديره: أنى لأعطي الرجل مخافة أن يكبه الله في النار، والحال أن غيره أحب إلى منه. ومعنى (يكبه) يدخله فيها (21) وقال أيضا: (لو كان العلم

(20) - روى الشيخ العارف الكامل المكمل عن أمير المؤمنين على، عليه السلام، (في تأويلاته، سورة (طه)، ص 49) في مقام بيان تفسير آية الكريمة: (فأوجس في نفس موسى خيفة).: (لم يوجس موسى خيفة على نفسه، إنما خاف من غلبة الجهال ودولة الضلال). (ج) (21) - والحديث الذي ذكره الشيخ، رضى الله عنه، نقله البخاري عن ابن ثعلب، قال رسول الله، عليه السلام: (أما بعد، فالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل. والذي أدع أحب إلى من الذي أعطى، ولكن أعطى أقواما لما يرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن ثعلب). وفي حديث آخر، أخرجه ابن حنبل أحمد في مسنده، والنسائي عن سعيد، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إني لأعطي رجالا، وأدع من أحب إلى منهم، لا أعطيه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم). يكبه، أي، يلقيه ويسقطه في النار أو في البحر. في صحيح البخاري ومسلم قال رجل يوم حنين: (والله إن هذه القسمة ما عدل فيها ولا تريد بها وجه الله). فتغير وجه رسول الله، عليه السلام، ثم ذكر: (رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا، فصبر). كان كلامه هذا شفقة عليهم ونصحا في الدين، لا تهديدا ولا تثريبا. اللهم العن حكاما سلطوا على الناس خدعة وبنوا بنيان تسلطهم على التهديد والتثريب وإرهاق دماء الأبرياء وجعلوا الدين وسيلة للسلطة ويلعبون بالكتاب والسنة 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في الثريا، لناله رجال من فارس).
(فاعتبر) أي النبي، صلى الله عليه وسلم: (الضعيف العقل والنظر الذي غلب عليه الطمع والطبع) بفتح (الباء)، أي الرين. إشارة إلى قوله: (وطبع الله على قلوبهم). كما قال: (كلا، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).
(فكذا ما جاؤوا به من العلوم) أي، فكذا حال ما جاء الأنبياء به من العلوم والحقائق (جاؤوا به) أي، جاؤوا بما جاؤوا به (وعليه خلعة أدنى الفهوم.) أي، وعليه خلعة ولباس يفهمه من له أدنى فهم (ليقف من لا غوص له عند الخلعة) أي، الصورة الظاهرة. فلما استعار لها لفظ (الخلعة)، رشح بقوله: (فيقول: ما أحسن هذه الخلعة قد ويراها غاية الدرجة. ويقول صاحب الفهم الدقيق الغائص على درر الحكم بما استوجب هذا) أي، المعطى له (هذه الخلعة من الملك. فينظر في قدر الخلعة وصنفها من الثياب، فيعلم منها قدر من خلعت عليه، فيعثر على علم لم يحصل لغيره ممن لا علم له بمثل هذا.) وهذا مثال لعلماء الظاهر والباطن. والخلعة مثال لظاهر الآيات والأخبار، فإن صاحب أدنى الفهوم يقف على ظواهرها، ولا يغوص في قعر بحرها، وصاحب الفهم الدقيق يستخرج منه لآلئ المعاني ودرر الحكم والمعارف.
(ولما علمت الأنبياء والرسل والورثة أن في العالم وفي أمتهم من هو بهذه المثابة، عمدوا في العبارة إلى اللسان الظاهر الذي يقع فيه اشتراك الخاص والعام، فيفهم منه الخاص ما فهم العامة منه وزيادة مما صح له به اسم أنه خاص، فيتميز به عن العامي. فاكتفى المبلغون العلوم بهذا.) أي، بلسان الظاهر. (فهذا حكمة قوله عليه السلام: (ففررت منكم لما خفتكم). ولم يقل، ففررت منكم حبا في السلامة والعافية) رعاية لجانب الظاهر ولسان العامة.
(فجاء إلى مدين فوجد الجاريتين (فسقى لهما) من غير أجر، (ثم تولى إلى الظل) الإلهي، فقال: (رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير). فجعل عين عمله السقى.) و (السقى) بدل عن (عمله)، أو عطف بيان. (عين الخير الذي أنزله الله إليه، فوصف نفسه بالفقر إلى الله في الخير الذي عنده.) إنما جعل عين السقى عين الخير الذي أنزل الله إليه، لأن الخير المنزل إليه كانت النبوة وعلومها. والماء صورة العلم - لذلك فسر ابن عباس، رضى الله عنهما، قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماءا). أي علما - فأفاض بعلمه على الجاريتين عين ما استفاض من الله تعالى في الحقيقة، وإن كان في الصورة غيره. ولأن التوفيق والقدرة بذلك العمل ما كان إلا من الله، فاستفاض ذلك منه وأفاض أثره عليهما، ووصف نفسه بالفقر إلى الله في الخير الذي عنده، لأن الفيض إنما يحصل بحسب الاستعداد، ومن جملة شروطه خلو المحل عما ينافي المعنى الفائض، بل عن كل ما سوى الله. والفقير التام هو الكامل المطلق من النوع البشرى.
(فأراه الخضر إقامة الجدار من غير أجر، فعتبه موسى على ذلك) بقوله: (لو شئت لاتخذت عليه أجرا). فذكره الخضر (بسقايته من غير أجر إلى غير ذلك مما لم نذكره.) أي، في، هذا الكتاب واطلعنا عليه في الكشف عند شهود الخضر عليه السلام.
وقد روى عنه أنه اجتمع بالخضر في الكشف. فقال له الخضر: كنت قد أعددت لموسى بن عمران ألف مسألة مما جرى عليه من أول ما ولد إلى زمان الاجتماع بينهما، فلم يصبر على ثلاثة مسائل منها قد (حتى تمنى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يسكت موسى، عليه السلام، ولا يعترض حتى يقص الله  تعالى عليه من أمرهما) بقوله: (رحمة الله علينا وعلى موسى، ليته صبر حتى يقص علينا من أنبائهما) (22) وفي رواية أخرى - متفق على صحتها - أيضا: (لو صبر أخي موسى، لرأى العجب، ولكن أخذ به من صاحبه دمامة). - الحديث.
(فيعلم بذلك ما وفق إليه موسى، عليه السلام، من غير علم منه) (فيعلم) ب‍ (الياء) عطف على (يقص). أي، حتى يقص الله، فيعلم رسول الله الذي وفق إليه موسى من الأعمال من غير علم منه واختيار منه. (إذ لو كان عن علم، ما أنكر مثل ذلك على الخضر الذي قد شهد الله له عند موسى وزكاه وعدله. و مع هذا غفل موسى عن تزكية الله وعما شرطه) الخضر. (عليه في اتباعه رحمة بنا إذا نسينا أمر الله.) أي، تلك الغفلة رحمة من الله بنا إذا نسينا حكم الله، حتى لا نؤاخذ بالنسيان.
(ولو كان موسى عالما بذلك، لما قال له الخضر: (ما لم تحط به خبرا). أي، إني على علم لم يحصل لك عن ذوق، كما أنت على علم لا أعلمه أنا. فأنصف.) أي، الخضر.
(وأما حكمة فراقه، فلأن الرسول يقول الله فيه) أي، في حقه. ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). فوقف العلماء بالله الذين يعرفون قدر الرسالة والرسول عند هذا القول، وقد علم الخضر أن موسى رسول الله، فأخذ يرقب ما يكون منه) أي، ما يصدر منه (ليوفى الأدب حقه مع الرسول) أي، وقف العلماء بالله، كالخضر وغيره، عند هذا القول، وهو: (ما آتاكم الرسول فخذوه) ليوفى الأدب حقه مع الرسول.
(فقال له: (إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني). فنهاه عن صحبته. فلما وقعت منه الثالثة، قال: (هذا فراق بيني وبينك). ولم يقل له موسى لا تفعل، ولا طلب صحبته، لعلمه بقدر الرتبة التي هو) أي، الخضر (فيها التي أنطقته بالنهي عن 

(22) - نقل السيوطي في الجامع الصغير عن أبى داود والنسائي: (رحمة الله علينا وعلى أخي موسى ليته صبر...). في نسخة: (لو صبر...).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أن يصحبه) أي، ولكون موسى عالما بالمرتبة التي حكمت عليه وأنطقته بالنهي عن المصاحبة. وتلك المرتبة هي مرتبة النبوة.
فضمير (علمه) و (هو) عائدان إلى (موسى).
(فسكت موسى ووقع الفراق. فانظر إلى كمال هذين الرجلين في العلم وتوفية الأدب الإلهي حقه) أي، وتوفيتهما الأدب الإلهي حقه. وإلى (إنصاف الخضر، عليه السلام، فيما اعترف به عند موسى، عليه السلام، حيث قال: (أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا) فكان هذا الإعلام من الخضر لموسى، عليها السلام، دواء لما جرحه به في قوله: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا). مع علمه بعلو رتبته بالرسالة، وليست تلك الرتبة للخضر......



ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق