مواضيع المدونة

الجمعة، أبريل 13، 2012

التوجه الحبى واحكامه واسراره والتنبيه عليه على سبيل الاجمال

 بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد


قال مولانا أبي المعالي القونوي في كتابه مفاتيح الغيب على التوجه الحبى واحكامه واسراره والتنبيه عليه على سبيل الاجمال:



اعلم أن التوجه والتشوف والطلب ونحو ذلك كلها بواعث المحبة وألقابها، و تختلف مراتبها وتتعين احكامها بحسب اختلاف حال كل من يظهر عليه حكم المحبة و سلطانها ويقوم به، فان الأوقات بالأحوال تعين صور الاستعدادات الجزئية في الوجود العيني، وتنبه على مرتبة صاحبها تارة من حيث الحال الجزئي المعين واخرى من حيث الذات بحكم الاستعداد الكلى.

وللمحبة أسماء ونعوت أخرى: كالعشق والهوى والإرادة ونحو ذلك، وكلها ترجع إلى حقيقة واحدة، والاختلاف راجع إلى اعتبارات نسبية هي رقائق للمحبة تتعين بحسب أحوال المحبين واستعداداتهم كما مر، وهى - أعني المحبة - على اختلاف أسمائها ونسبها ونعوتها واحكامها لا يصح تعلقها بموجود أصلا، فإنه يكون طلبا لتحصيل الحاصل وهو محال - كما بين من قبل - فتعلقها اذن انما يكون بأمر معدوم عند الطالب حال الطلب وبالنسبة إليه، وإن كان موجودا في نفسه أو بالنسبة إلى سواه، فلا يصح ان يكون الحق سبحانه مطلوبا لاحد ولا محبوبا الا للانسان الكامل والندر من الافراد المشاركين للكمل في هذا الذوق.


واما من سوى ما ذكرنا فمتعلق محبته وطلبه انما هو ما يكون من الحق سبحانه و تعالى، كشهوده - ان لم يكن حاصلا للمحب والطالب - أو دوام شهوده - إذا حصل الشهود - أو القرب منه أو المعرفة به أو فوز الطالب بما فيه سعادته على سبيل الاستمرار و بالنسبة إلى غرض خاص ومطلب معينة كتحصيله مثلا مقاما خاصا أو مرتبة أو حالا أو أحوالا أو مراتب قد سمع بها أو عرفها من بعض وجوهها ونسبها، وعرف لذلك المطلوب كان ما كان فوائد جمة وثمرات يحصل جميعها لمن حصل له ذلك المطلوب من حال أو مقام أو غيرهما مما ذكرنا، وكل ذلك أو بعضه عند الطالب مما يقتضى السعادة أو يوجب نيل المقاصد والفوائد العظيمة الجدوى - دنيا وآخرة - وحاصله نيل ما يلائم الروح أو المزاج أو المجموع على الوجه الأتم عند الطالب وعلى الدوام، أو إزالة ما يلائم الروح أو المزاج أو المجموع بالكلية من غير تصور العود أو امكانه، فيسعى الطالب حينئذ في طلب ذلك المراد أو يطلب كما قلنا اعدام أمر موجود فيه أو عنده أو بعيد عنه من وجه - سواء كان البعد معنويا أو محسوسا ظاهرا - وفي الجملة: فإزالة الحاصل حال الحصول أمر غير موجود أيضا، فصح ان متعلق المحبة أمر معدوم عند الطالب وبالنسبة إليه حين الطلب.

ثم المطالب على أقسام كثيرة مندرجة في أصلين: أحدهما كوني والاخر رباني، فالكوني يشتمل على ضروب: منها: طبيعية عنصرية ومنها: طبيعية غير عنصرية، وقد علمت الفرق بين هذين الضربين. ومنها روحانية متلبسة بصورة وغير متلبسة ومعان مجردة داخلة في مرتبة الامكان، والأصل الرباني يشتمل على تعينات وجودية في مظاهر وتعينات أسمائية غيبية كلية اجمالية.

واعلم أنه لا يطلب شئ غيره دون مناسبة جامعة بينهما - هذا محال كشفا - والمناسبة عبارة عن كل أمر جامع بين شيئين أو أشياء تتماثل في الاتصاف باحكامه وقبول اثاره، و تشترك فيه اشتراكا يوجب رفع التعدد من بينها والامتياز، لا مطلقا، بل من جهة ما يضاهى به كل منها ذلك الامر الجامع وما فيها منه، والامر الجامع حكمه أيضا من الوجه الذي يتحد به الأشياء فلا يمتاز عنه حكمها، يثبت له وينتفى عنه ما يثبت له،  وينتفى عنه ما يثبت لها وعنها، والتضاد والتباين انما يقع بين الأشياء من حيث خصوصياتها المميزة كلا منها عما سواه.

وإذا عرفت هذا فأقول: ولكل مناسبة ثابتة بين طالب ومطلوب رقيقة رابطة بينهما، هي مجرى حكم المناسبة وصورته وتجذب تارة من أحد الطرفين وتارة من كليهما. فمن طرف العبد مع الحق سبحانه يسمى توجها بالسير والسلوك نحو الحق في زعم السالك والطالب أو نحو ما يكون منه، ومن جهة الحق سبحانه يسمى تدليا بتحبب وإجابة، والجذب والباعث من الطرفين يكون بسر المحاذاة والمقابلة المعنوية المظهرة حكم المناسبة تماما، والالتقاء يكون في الوسط ان اتحد زمان الانبعاثين وتحققت المحبة من الجهتين، فكان كل منهما محبا محبوبا، ويسمى هذا اللقاء والحال عند المحققين بالمنازلة، وان لم يكن اللقاء في الوسط فإلى أي الجهتين كان أقرب، حكم لصاحبه بالأولية في مرتبة المحبوبية وبالأخرية في رتبة المحبية، والأولية هنا للاسم الباطن والأخرية للظاهر، وسواء كان هذا الامر بين مخلوقين أو بين حق وخلق، ويزيد الطلب حيث يزيد العلم، إذ المحبة التي هي أصل الطلب تابعة للعلم، تقوى بقوة العلم، فيقوى اثرها.
وهذا الامر في رتبة السالك يسمى بالتنزل ما لم يقع الالتقاء في الوسط ولم يبلغه السالك، وان حصل الالتقاء بعد تجاوز الرتبة الوسطية المعبر عنها بالمنازلة، سمى ذلك في ذلك العبد السالك بالتداني، وفي حق الرب بالتدلي. فالالتقاء في المنزل هو تنزل من الحق إلى عبده - نظير العروج للعبد - فافهم. والمقصود من التلاقي والاجتماع وثمرتهما هو ظهور الكمال المتوقف الحصول على ذلك الاجتماع، ولا يكون ذلك ولا يتم الا بحركة حبية معنوية أو لا متعينة - مما خفى من المطلوب في الطالب، ومن الطالب في المطلوب لالحاق فرع بأصل وتكميل كل بجزء.
والطالبون على قسمين: عالم وجاهل: فالطالب الجاهل شفيعه المناسبة والارتباط بالرقيقة الذاتية المشار إليها، والطالب العالم بما ذكرنا له الاعتضاد بالمناسبة والعلم المقرب للمسافة، القاطع للقوادح والعلائق العائقة عن تكميل صورة المناسبة وتقوية حكم ما به الاشتراك على ما به الامتياز، ثم الإعانة والامداد بما يتأيد به القدر المشترك من حيث كل فرد من افراد الحقائق التي اشتملت عليها ذات الطالب والمطلوب أو كانت لوازم لهما.

ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وآله للصحابي - وقد سأله ان يكون رفيقه في الجنة -: أعني على نفسك بكثرة السجود.

وهذا ذوق عزيز، من اطلع على سره عرف سر الأعمال على الاطلاق، وان سبب تنوعها اختلاف حقائق من تظهر بهم أعيان الأعمال وروعي فيها بأجمعها سر المناسبة لتصح الثمرة ويكمل المقصود ويعلم أيضا سر تنوعات المطالب والمناسبات التي بينها وبين الأعمال المتخذة وسائل لتحصيل تلك المطالب، ويعلم أيضا تعين الثمرات في كل مرتبة من مراتب الأعمال والعمال على اختلاف صورها من حسن وقبح وكمال ونقص، ويعلم سر المحبة أيضا ورقائقها ونسبها واحكامها ونحو ذلك مما شاء الحق ايضاحه، وان ربك هو الفتاح العليم.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق