مواضيع المدونة

الاثنين، أبريل 30، 2012

فصول ثلاث في النفس من رسائل إخوان الصفا


 بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد


اخترت هذه الفصول الثلاث من رسائل إخوان الصفا عسى الله ينفع بها القارئ الكريم..وهي نافعة مختصرة: 


فصل أعلم يا أخي بأن

من الناس من يكون اعتقاده تابعاً لأخلاقه


ومنهم من تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده، وذلك أن من يكون مطبوعاً على طبيعة مريخية فإنه تميل نفسه إلى الآراء والمذاهب التي يكون فيها التعصب والجدال والخصومات أكثر، وهكذا أيضاً من يكون مطبوعاً طبيعة مشترية، فإنه تكون نفسه مائلة إلى الآراء والمذاهب التي يكون فيها الزهد والورع واللين أكثر. وعلى هذا القياس توجد آراء الناس ومذاهبهم تابعة لأخلاقهم، وأما الذي تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده فهو الذي إذا اعتقد رأياً أومذهباً وتصوره وتحقق به، صارت أخلاقه وسجاياه مشاكلة لمذهبه واعتقاده، لأنه يصرف أكثر همه وعنايته إلى نصرة مذهبه، وتحقيق اعتقاده في جميع متصرفاته، فيصير ذلك خلقاً له وسجية وعادة يصعب إقلاعه عنها وتركه لها.

وعلى هذا الجنس من الأخلاق تقع المجازاة من المدح والذم والثواب والعقاب والوعد 
والوعيد والترغيب والترهيب، لأنه اكتساب من صاحبه وفعل له، والمثال في ذلك ما جاء في الخبر أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان، وكان المجوسي راكباً على بغلة عليها كل ما يحتاج إليه المسافر في سفره من الزاد والنفقة والأثاث، فهو يسير مرفهاً، واليهودي كان ماشياً ليس معه زاد ولا نفقة. فبينما هما يتحدثان، إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك واعتقادك، يا خوشاك، قال اليهودي: اعتقادي أن هذه السماء إلهاً هوإله بني إسرائيل وأنا أعبده. وأسأله وأطلب إليه ومنه سعة الرزق، وطول العمر، وصحة البدن، والسلامة من الآفات، والنصرة على الأعداء؛ أريد منه الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، فحلال لي دمه وماله، وحرام علي نصرته اونصيحته أومعاونته اوالرحمة أوالشفقة عليه. ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني عنه، فأخبرني، يا مغا، أنت ايضاً عن مذهبك واعتقادك. قال المجوسي: أما اعتقادي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم؛ ولا أريد لأحد من الخلق سوءاً، لا لمن كان على ديني ويوافقني، ولا لمن يخالفني ويضادني في مذهبي. فقال اليهودي له: وإن ظلمك وتعدى عليك، قال: نعم، لأني أعلم أن في هذه السماء إلهاً خبيراً فاضلاً عادلاً حكيماً عليماً لا تخفى عليه خافية في أمر خلقه، وهويجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين على اساءتهم. فقال اليهودي للمجوسي: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك. فقال المجوسي:
وكيف ذلك، قال: لأني من أبناس جنسك، وأنت تراني أمشي متعوباً جائعاً، وأنت راكب شبعان مترفه. قال: صدقت، وماذا تريد، قال: أطعمني واحملني ساعة لأستريح فقد أعييت. فنزل المجوسي عن بغلته، وفتح له سفرته، فأطعمه حتى أشبعه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان. فلما تمكن اليهودي من الركوب، وعلم أن المجوسي قد أعيا، حرك البغلة وسبقه، وجعل المجوسي يمشي فلا يلحقه، فناداه: يا خوشاك، قف لي وانزل فقد أعييت. فقال له اليهودي: أليس قد أخبرتك عن مذهبي يا مغا، وخبرتني عن مذهبك، ونصرته وحققته، وأنا أريد أيضاً أن أنصر مذهبي وأحقق اعتقادي؛ وجعل يجري البغلة والمجوسي في أثره يعدو، ويقول: ويحك، يا خوشاك، قف لي قليلاً واحملني معك، ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعاً وعطشاً، وارحمني كما رحمتك. وجعل اليهودي لا يفكر في ندائه، ولا يلوي عليه، حتى مضى وغاب عن بصره.
فلما يئس المجوسي منه وأشرف على الهلاك، تذكر تمام اعتقاده، وما وصف له بأن في السماء إلهاً خبيراً فاضلاً عالماً عادلاً لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء فقال: يا إلهي، قد علمت إني قد اعتقدت مذهباً ونصرته وحققته ووصفتك بما سمعت وعلمت وتحققت، فحقق عند اليهودي خوشاك ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت. فما مشى المجوسي إلا قليلاً حتى رأى اليهودي وقد رمت به البغلة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها. فلما لحق المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت. فناداه اليهودي: يا مغا، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعاً وعطشاً، وحقق مذهبك، وانصر اعتقادك. قال المجوسي: قد فعلت مرة، ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك، ولم تعقل ما وصفت لك. فقال اليهودي: وكيف ذلك، فقال: لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، وذلك أني قلت لك أن في هذه السماء إلهاً خبيراً فاضلاً عالماً عادلاً لا يخفى عليه خافية، وهويجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم. قال اليهودي: قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت. فقال له المجوسي: فما الذي منعك أن تتعظ بما قلت لك يا خوشاك، فقال اليهودي: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد ألفته وصار عادة وجبلة بطول الدؤوب فيه، وكثرة الاستعمال له، اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، فقد صار جبلة وطبيعة ثابتة، يصعب علي تركها والإقلاع عنها. فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة وسلمه إلى أهله مكسوراً. وحدث الناس بقصته وحديثه معه، فجعلوا يتعجبون. فقال بعض الناس للمجوسي: كيف حملته بعد شدة جفائه بك وقبيح مكافأته إحسانك إليه، قال المجوسي: اعتذر إلى وقال: مذهبي كيت وكيت، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة لطول الدؤوب فيه وجريان العادة به، يصعب الإقلاع عنها والترك لها، وأنا أيضاً قد اعتقدت رأياً وسلكت مذهباً صار لي عادة وجبلة، فيصعب الإقلاع عنها والترك لها.

وإذ قد تبين بما ذكرنا أن العلل الموجبة لاختلاف أخلاق النفوس، والأسباب المؤدية إليها أربعة أنواع حسب، كما قلنا في أول الرسالة، فنقول الآن إن الأخلاق كلها نوعان، إما مطبوعة في جبلة النفوس مركوزة فيها، وإما مكتسبة معتادة من جريان العادة وكثرة الاستعمال؛ ومن وجه آخر أيضاً إن الأخلاق نوعان، منها ما هي أصول وقوانين، ومنها ما هي فروع وتابعة لها، فنحتاج ان نبينها ونفصلها ليعرف بعضها من بعض، إذ كان هذا الفن من المعرفة من العلوم الشريفة النافعة جداً، وخاصة لمن له عناية برياضة النفس وتهذيبها وإصلاح أخلاقها، إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأسباب المنجية لها من الهلكة، المفصلة بعضها من بعض، كما بينا في رسالة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.


فصل في مراتب الأنفس


أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الباري- جل ثناؤه- لما أبدع النفوس واخترعها وأبرز المستكن والمستجن من الكائنات، رتبها ونظمها كمراتب الأعداد المفردات، كما ذكر تعالى بقوله حكاية عن الملائكة قولهم:" وما منا إلا له مقام معلوم، وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون".
وأعلم يا أخي بأن أعداد النفوس كثيرة لا يحصيها إلا الله- جل ثناؤه- كما قال:" وما يعلم جنود ربك إلا هو" ولكن نحتاج أن نذكر طرفاً من مراتبها ومقاماتها الجنسية، إذ كانت الأنواع والأشخاص لا يمكن تعديدها ولا يعلمها إلا هو.
وأعلم يا أخي بأن مراتب النفوس ثلاثة أنواع، فمنها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما هي فوقها، ومنها ما هي دونها؛ فالتي هي دونها سبع مراتب، والتي فوقها سبع أيضاً، وجملتها خمس عشرة مرتبة. والمعلوم من هذه المراتب التي ذكرناها عند العلماء، ويمكن لكل عاقل أن يعرفها ويحس بها، خمس، منها اثنتان فوق رتبة الإنسانية وهي رتبة الملكية والقدسية، ورتبة الملكية هي رتبة الحكمية، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة والناموسية، واثنتان دونها وهي مرتبة النفس النباتية والحيوانية، ويعلم صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، الناظرون في علم النفس من الحكماء والفلاسفة وكثير من الأطباء.
وأما الرتبتان اللتان فوق رتبة الإنسانية فهي مرتبة الحكمة وفوقها الناموسية؛ وأما مرتبة الإنسانية فهي التي ذكرها الله تعالى بقوله:" لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" وأما التي فوق هذه فما أشار إليه بقوله:" ولما بلغ أشده واستوى" يعني الإنسان" آتيناه حكماً وعلماً؛" وقال أيضاً: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" يعني الإنسان احيينا نفسه بنور الهداية، وهذه هي مرتبة نفوس المؤمنين العارفين والعلماء الراسخين.
فأما التي فوقها فمرتبة النفوس النبوية الواضعين النواميس الإلهية، وإليها أشار بقوله- جل ثناؤه-:" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" وهذه المرتبة تلي مرتبة القدسية الملكية. فقد تبين بما ذكرنا، المراتب الخمس التي يمكن الإنسان أن يعلمها ويحس بها. فأما المراتب التي دون النباتية وفوق القدسية فبعيدة معرفتها على المرتاضين بالعلوم الإلهية، فكيف على غيرهم.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما أردنا أن نقدمه فنقول الآن ونخبر بكل ما يخص كل نوع من هذه النفوس الخمس من المعونة والتأييد.

أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن الله- جل ثناؤه- لما ربط الأنفس الجزئية بالأجسام الجزئية للعلة التي ذكرناها في رسالة" الإنسان عالم صغير" أيدها وأعانها بضروب من المعاونة وفنون من التأييدات: كل ذلك جود منه ولطف بها، وأنعام منه عليها، وإفضال وإحسان غليها، وإكرام لها، وذلك أنه كلما بلغت نفس منها رتبة ما، أمدها بزيادة فضلاً منه وجوداً، أونقلها إلى ما فوقها وأرفع منها وأعز وأشرف وأجل وأكرم: كل ذلك ليبلغها إلى أقصى مدى غاياتها وتمام نهاياتها، وإذ تبين بما ذكرنا، مراتب النفوس الخمس، وما الفائدة والحكمة في رباطها بالأجسام، فنريد أن نذكر ما يخص كل نوع منها من المعاونة والتأييد، وهي القوى الطبيعية، والأخلاق المركوزة، والهياكل الجسمانية، والأدوات الجسدانية، والشعورات الحسية، والأوهام الفكرية، والحركات المكانية، والأفعال الإرادية، والأعمال الاختيارية، والصنائع الحكمية، والأوضاع الناموسية، والسياسات الملكوتية؛ ونبدأ بذكر الشهوات المركوزة في الجبلة والقوى الطبيعية المعينة لها، إذ كانت هي الأصل والقانون في جميع القوى والأخلاق والخصال والأفعال والحركات والحس والشعور بها ومن أجلها، كما سنبين بعد.


فصل

وأعلم يا أخي بأن من الأخلاق والقوى

ما هي منسوبة إلى النفس النباتية الشهوانية، ومنها ما هي منسوبة إلى الحيوانية الغضبية، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس الإنسانية الناطقة، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس العاقلة الحكمية، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس الناموسية الملكية.
فأما المنسوبة إلى النفس الشهوانية من الخصال والقوى التي تخصها، فأولها شهوة الغذاء، وهي النزوع والشوق نحوالمأكولات والمشروبات والمشتهيات، والرغبة فيها، والحرص في طلبها، واحتمال المشقة والذل من أجلها، والفرح والسرور بوجدانها، والراحة واللذة في تناولها، والملل والشبع عند الاستكفاء منها، والنفور من الضار منها والبغض له، ومن القوى المختصة بها أيضاً القوة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصورة؛ومن الشعور والتمييز معرفة الجهات الست، ومن الأفعال إرسال العروق نحوالجهات الندية والتراب اللين، وتوجيه الفروع والقضبان إلى الجهات المتسعة، والميل والانحراف عن الأمكنة الضيقة والأجسام المؤذية.
كل هذه الخصال مركوزة في الجبلة من غير فكر ولا روية، وكل ذلك معاونة من الطبيعة لنفوسها وتأييد لها بإذن باريها- جل ثناؤه- على طلب مشتهياتها والوصول إلى منافعها، والفرار من المضرة، إذ كانت تلك المشتهيات هي غذاء لأجسامها، ومادة لقوامها وسبباً لبقائها كلها، إذ كان في بقائها كلها تتميم لمعارفها وتكميل لفضائلها؛ وفي تتميم معارفها وتكميل فضائلها ترق لها إلى أفضل حالاتها وأشرف نهاياتها.
وأما المنسوبة إلى النفس الحيوانة المختصة بها من الخصال المركوزة في الجبلة زيادة على ما تقدم فهي شهوة الجماع، وشهوة الانتقام، وشهوة الرياسة، ولها أيضاً الهياكل اللحمية، والأعضاء المختلفة للأغراض العجيبة، والمفاصل اللينة للحركات المكانية والتنقل في الجهات الست لمآرب ومنافع كثيرة؛ ولها الشعور بالحواس المخصوصة والأصوات المختلفة لدلالات متبانية، ولها أيضاً الوهم والتخيل للمطالب والمنافع، والحفظ والذكر لعرفان أبناء الجنس والمخالف، وإمكان الاحتراس من المضار، والنفور والفرار من العدو: كل هذه مركوزة في جبلة الحيوانات القريبة النسبة إلى الإنسان. فأما علة شهوة الجماع المركوزة في جبلتها فهي من أجل التناسل، والتناسل هومن أجل بقاء الصورة في الأشخاص المتواترة، إذ كانت الهيولى دائمة في السيلان لا تقف طرفة عين. وأما علة شهوة الانتقام المركوزة في جبلتها فهي من أجل دفع المضرات المفسدات لهياكلها المتشخصة وأعلم يا أخي بأن دفع المضار تارة يكون بالقهر والغلبة، وتارة يكون بالهرب والفرار، وتارة بالتحرز والتحصن، وتارة بالمكر والحيلة، كما قد شرحنا ذلك في رسالة الحيوانات. وأما شهوة الرياسة المركوزة في جبلتها فهي من أجل تأكيد السياسة، إذ كانت السياسة لا تتم إلا بعد وجدان الرياسة.
وأعلم يا أخي بأن المراد من السياسة هوصلاح الموجودات وبقاؤها على أفضل الحالات وأتم الغايات كما سنبين في فصل آخر.



وأما المنسوبة إلى النفس الناطقة المختصة بها زيادة على ما تقدم ذكره، فهي شهوة العلوم والمعارف والتبحر والاستكثار منها، وشهوة الصنائع والأعمال والحذق فيها والافتخار بها، وشهوة العز والرفعة والترقي في غايات نهاياتها، والشوق إليها والرغبة فيها، والحرص في طلبها، واحتمال الذل والمشقة من أجلها، والفرح والسرور من وجدانها، واللذة والراحة عند الوصول إليها، والغم والحزن من فقدانها.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق