مواضيع المدونة

الأحد، مايو 06، 2012

جولة بين لسان حال الطبيعة وقلب عارف


 بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد





قال سيدي عز الدين المقدسي قدس سره في كتابه كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار:

أخرجني الفكر يوماً لأنظر ما أوجدته أيدي القدم في الحدث، وأحدثته القدرة البالغة للجدّ لا للعبث، فانتهيت إلى روضةٍ قد رق أديمها، ونمى خصيب رطيبها، وراق نسيمها، ونمَّ طيبها، وغنّى عندليبها، وتحركت عيدانها، وتمايلت أغصانها، وتنمقت أزهارها، وصّوت هزّازها، وتسلسلت جداولها، وتبلبلت بلابلها.
فقلت: يا لها من روضة ما أهناها، وخضرة ما أبهاها، وحضرة ما أصفاها، فليتنى استصحبت صديقاً حميماً يكون لطيب حضرتي نديماً.
فناداني لسان الحال في الحال: أتريد نديماً أحسن مني، أو مجيباً أفصح مني? وليس شيء في حضرتك إلا وهو ناطق بلسان حاله، منادٍ على نفسه بدنوا ارتحاله، فاستمع له إن كنت من رجاله
. وفي ذلك أقول:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ نَسِيمَ الـصَّـبَـاله نَفَسٌ نَشَره صَـاعِـدُ
فَطَوْراً يَفُوحُ وطوراً يَنُوحُكما يَفْعَلُ الفَاقدُ الوَاجـد

وسكبُ الغمامِ ونوحُ الحمامِإذا ما شَكَى الغُصْن المايدُ
وضوءُ الأقاحِ ونُورُ الصَّباحِوقد هزَّهُ البَارقُ الرَّاعِـدُ
ووافَى الرَّبيعُ بمعنىً بـديعيُترجمُ عـن وِرْدِهِ الـوَاردُ
وكُلٌّ لأَجْلِكَ مُسْـتَـنْـبَـطٌلما فيه نَفْعُـكَ يَا جَـاحِـدُ
وكُــلٌّ لآلآئِهِ ذَاكِـــرٌمُقرٌِّ لهُ شَـاكِـرٌ حـامِـدُ
وفى كُـلّ شَـيْءِ لَـهُ آيَةٌتَدُلّ عَـلَـى أَنـهُ وَاحِـدُ



إشارة النسيم

فأول ما سمعت همهمة النسيم، يترنّم بصوته الرخيم، يقول بلسان حاله، عن صريح لفظه ومقاله: أنا رسول كل محب إلى حبيبه وحامل شكوى كل عليل إلى طبيبه، إن استودعت سِرّاً أديته كما استودعته، وإن حُمّلتُ نشراً رويته كما سمعته، وإن صحبتُ مصحوباً اتّحدتُ فيه بلطافة إيناسى، ومازجته بصفاء أنفاسى، فإن طاب طبت، وإن خبث خبثت، كما قال الشاعر:

الرَّاحُ كالرِّيّحِ إن مرَّت عَلَى عَطـرٍطَابت، وتَخْبُثُ إنْ مَرَّت على الجيفِ

ثم إني إن اعتللت صحّ بي العليل، وحيث حللت طاب بي المقيل، وإن تنفّست تنفّس المشتاق، وإن نمّت توسوست العشّاق، فأنا لّين الإعطاف، هيّن الانعطاف، سريع الائتلاف، ولولا وجودي في الوجود لما كان مخلوق موجود، يعرف لطفى ذوو الألطاف فلا تظن اختلاف هوائي سبب إغوائي، بل أختلف في الفصول الأربع، لما هو أصلح لك وأنفع، فأهبُّ في الربيع شمالاً لألقح الأشجار، وأُعدّل فصلى الليل والنهار، وأهب في الصيف صبّاً لأنمّى الثمار، وأُصفّى الأنهار، وأهب في الخريف جنوباً فتأخذ كل شجرة حد طيبها، وتستوفى حق تركيبها، وأهبّ في الشتاء دبوراً فآخذ عن كل شجرة حملها وأوراقها ويبقى أصلها. فأنا الذي تنمو بي الثمار، وتسمو بي الأزهار، وتتسلسل الأنهار، وتلقّح بي الأشجار، وتتروح بي الأسرار، وأبشرك في الأسحار بقرب المزار، وفي ذلك أقول:

يَاطِيب ما نقلَ النَّسيمُ لمَسْمـعـىعن طِيبِ ذيَّاك المحـلّ الأرفـعِ
وَافى لينشرَ ما انْطَوَى من نَشْـرِهِفَسَكِرتُ مِنْ طِيبِ الشَّذَا المتضوّعِ
ولربما أعتلّ الـنَّـسـيم إذا بَـدَتْأنفاس شوقي المستكنُ بأضلعِـي
هبَّ الصَّبا سَحَراً لتُبرَد عُـلّـتـيفَأثارَ نار تَحرّقي وتَـوجّـعـى
مَا ذَاكَ إِلاَّ أنَّـهَـا لِـمَـا سِـرْتُمرّتْ عَلى تِلْكَ الـرُّبَـا الأَرْبَـعِ
فَتَحَمَّلتْ نَشْرَ الصَّبَا فـي طّـيّهَـافَسَكرتُ وسَمِعْتُ مَا لم يُسْـمَـعِ
وَآفتْ تُبَشّرنى بِـلَـيْلـى أَنَّـهَـافي حُسْنهَا سَفَرتْ فَلَم تَتَبَـرْقَـعِ
وَجَلتْ عَلَى عُشّاقِهَا في حَانِـهَـاوَجْهاً تمنّع في حِمىً متـمـنّـعِ


إشارة الورد

ثم سمعت مجاوبة الأزاهير بألوانها، والشحاريرُ بأقنانها، فرأيت الورد يخبر عن طيب وُروده، ويعترف بَعرفه عند شهوده، ويقول: أنا الضيف، الوارد بين الشتاء، والصيف، أزور كما يزور الطيف، فاغتنموا وقتى فإن الوقت سيف. أعطيت نفس العاشق وكُسيت لون المعشوق، فأروح الناشق وأهيج المشوق، فأنا الزائر وأنا المزور، فمن طمع في بقائي فإن ذلك زور. ثم من علامة الدهر المكدور، والعيش الممرور؛ أنني حيث ما نبتّ رأيت الأشواكَ تزاحمنى، والأدغال تجاورني، فأنا بين الأدغال مطروح، وبنبال شوكى مجروح، وهذا دمى يُرى عندما يلوح، فهذا حالى وأنا ألطف الأوراد،وأشرف الورّاد، فمن ذا الذي سلم الأنكاد، ومن صبر على نكد الدنيا فقد بلغ المراد.
وبينما أنا أرفل في حلل النضارة، إذ قطفتني يد النظارة، فأسلمتني من بين الأزاهير إلى ضيّق القوارير، فيذاب جسدي، ويُحرق كبدي، ويُمزق جلدي، ويقطر دمعي الندى، ولا يُقام بأودي، ولا يؤخذ بقودي ، فجسدي في حُرق، وجفوني في غرق، وكبدي في قلق، وقد جعلت ما رشح من عرقي شاهداً لما لقيت من حُرقي، فيتأسى باحتراقي أهل الاحتراق، ويتروح بنفسي ذوو الأشواق، فأنا فانٍ عنهم بأيّاي، باقٍ فيهم بمعناي، أهل المعرفة يتوقعون لقآئي، وأهل المحبة بتمنون بقآئي، وفي ذلك أقول:  


فإنْ غِبْتَ جِسْماً كنتَ بِالرُّوحِ حاضراًفسِيّان قُرْبى إنْ تَأَمّلتَ والـبـعْـدُ
فللَّهِ من أضْحَى من النَّـاسِ قـائلاً:إِنَّكَ مَاءُ الـوَرْدِ إذْ ذَهَـبَ الـوَرْدُ

إشارة المرسين

فلما سمع المرسين كلام الورد، قال: لقد لعب النسيم بالبرد، وباح النسيم بسره، ونشر السحاب عقود ظلّه، وتضّوع البهار بعرفه، وتبرج الربيع بقلائد نَحره، وخلع السرور عذاره، وبسط على الروض الأنيق أزهاره، وغرّد الهزار، ورد لعاشقة المزار، فقم بنا نتفرج، ونتيه بحسنه ونتبهرج، فأيّام السرور تُختلس، وأعمارها بأسرارها تُقتبس.
فلما سمع الورد كلام المرسين قال له: يا أمير الرياحين، من سلوك الأُمراء تأمّل الصواب في الآراء، تأمر باللو عبدك، وتحض على العيب جندك، وأسير الرعية، صاحب الفكرة والروية، فلا يعجبك حسنك إذا تماود غصنك، ولا لحسن أوراقك، وكرم أعراقك، فأيام الشباب كزيارة الأحباب، سريعة الزوال، دارسة الأطلال، كالطيف الطارق، والخيال المفارق، يطرق ويُلم، وينقطع وصله فلا يتم، وكذلك النبات، أخضر الجلباب، مورق العود، كالقباء المزرود، إذ حصد من أصله، وحكمت الأيام بشتات شمله. والنبات مختلف الأجناس، كاختلاف الحيوان من الناس: فمنها ما يصلح للنار، كالحطب اليابس من الأشجار، ومنها ما يُشمّ ويذبل، ويُجوّل خطابه وينصل، وتطرقه حوادث الأيام، ويعود مرمياً على الأكوام، ومنها ما تؤكل ثماره، وتحسن في النار آثاره، فإياك والاغترار بزخارف هذه الدار، إنما أنت فريسة الأسد الهمام، وعليك إن نصحتك والسلام، وفي ذلك أقول:

يا رَاقِداً في اللَّيلِ كَمْ ذَا تَـنـامُأمّا تَخَافُ العُتْبَ بـينَ الأنـامِ
فَقُمْ لِـمَـوْلاَكَ وَكُـنْ قَـائِلاًفي حِندِسِ اللَّيلِ وجُنحِ الظَّلامِ
يَا ربُّ بالهَادِي شِفِيعِ الـوَرَىالمُصْطَفَى ذُخْرِي عَلَيْهِ السَّلامُ
اهّدِي إِلهي مِنْـكَ لـي تَـوْبَةًتَمْحُو ذُنُوبي والخَطَأ والآثـامِ
فَقَدْ أتَيْتُ الآنَ مُسْـتَـغْـفِـراًمُعْتَرِفاً بالذَّنْبِ لي والـسَّـلامِ


إشار البان

فلما نظرت الأشجار إلى طرب البان بينها، وتمايُله دونها، لامُوه على كثرة تمايله، وعَنَّفوه على عجبه بشمائله، فتمايل هنالك البان، وقال: لقد ظهر عُذرى عند الناس وبان، فمن ذا يلومني على تمايل أغصاني، واهتزاز خرصاني، وأنا الذي بسطت لي الرياض مطارفها، وأظهرت لي الأزهار زخارفها، وأهدت اليَّ نسماتُ الأسحار لطآئفها. فإذا رأيت ساعة نشور أموات النبات قد اقتربت، ورأيت الأرض وقد اهتزت وربت، ونفخ في صور رعدي ونسخ حكم وعيدي بإنجاز وعدي، وحان ورود وردى، فأنظر إلى الورد وقد ورد، وإلى البرد وقد شرد، وإلى الزهر وقد اتقد، وإلى الحب وقد انعقد، وإلى الغصن اليابس وقد اكتسى بعد ما انجرد، وإلى اختلاف المطاعم والمشارب وقد اتحد، فاعلم أن خالقها أحدٌ، ومنوعها صمدٌ، وموجودها بالقدرة قد انفرد، فلا يفتقر إلى أحدٍ، ولا يستغنى عنه أحدٌ، ولا يشاركه في ملكه أحدٌ، فهو الأحد الصمدُ الذي لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفواً أحد.
فهناك تمايلت قدودي طرباً بطيب شهودي، وترنمت بلابل سعودي على تحريك عودي، ثم تدركني عنايةُ معبودي، فأفكرُ في عدمي ووجودي، وفوات مقصودي، فأنعطف إلى الورد فأخبره بورودي، وأخلع عليه من برودي، وأستخبره عن مصدري وورودي؛ فقال لي: وجودك كوجودي، وموجودك كموجودي، وركوعك كسجودي، فأنت بخضرة قدودك، وأنا بحُمرة خدودي، فلهمَّ نجعلُ في النار وقودك ووقودي، قبل نارُ خلودك وخلودي.
فقلت: إذا صح الائتلاف، ورضيت لنفسك بالتلاف، فليس للخلان من خلال، فنقطف على حكم الوفاق، ونختطف من بين الرفاق، وتُصعّدُ أنفاسنا بالاحتراق، وتقطر دموعنا بالإشفاق، فإذا فنينا عن صور أشباحنا، وبقينا بمعاني أرواحنا، فسيّان غدوّنا ورواحنا. وفي ذلك أقول:

وَرَدَ الوَرْدُ بَـشِـيراً بـالـذيفيه من لُطْف المَعَانِي قَدْ حَوَى
فَانْثَنَى البانُ لهُ منْـعَـطِـفـاًلاثِماً نَشرَ الذي فيه انـطَـوَى

مَالَ يَشْكوُ أَهْـيف الـقـدْ لـهفَرْطَ مَا يَلْقَاهُ من حَرٍّ الجَـوَى
فَرَثـاَهُ الَـورْدُ إذْ قَـالَ لَــهُنَحْنُ خِلَّانٌ تَسَاهَمْنَا الـهَـوَى
فأَنَـا أنّـتَ كـمـا أنْـتَ أَنَـانَحنُ في المَغْنَى جَمِيعاً بالسَّوَى
كم رُمِينَا في لَظَى نـارٍ فـلاصَاحِبِي ضَلَّ ولاَ قَلْبِي غَـوَى
ولَكُمْ قَدْ فرّقَتْ أيدي الـنَّـوَىبَيْنَنَا والغُصْنُ مِـنَّـا مـا ذَوَى
ألم تَرَ أَحْشَاؤنا قـد حُـشِـيَتْبِلَهِيب النَّارِ وَالقَلْبُ اكـتَـوَى
وِبهَا أنْفَاسُنـا قَـدْ صُـعِّـدتْمِثْلَ مَا قَدْ قُطّرت منّا القُـوَى
كلُّنا نَشْكُـو بِـشـجْـوٍ وَاحِـدِولكُلٍّ فـي هَـوَاهُ مـا نَـوَى
قَسَماً حَقّـاً يَمِـينـاً صَـادِقـاًبالذي قُدْماً على العرشِ اسْتَوَى
إنَّ في شَرْحِ غَرامِي عِـبـرةًلذَوِي القَلْبِ إذا القَلْبُ ارعَوَى
كُنْتُ بالأمسِ كِبِـدْرٍ طَـالـعٍوَأَنَا اليومَ كَنَجْـمٍ قَـدْ هَـوَى

إشارة النرجس

فأجابه النرجس من حاضره، وهو ناظر لمناظره، وقال: أنا رقيبُ القوم وشاهدهم، وسميرهم، ومنادمهم، وسيّد القومِ خادمُهُم، أعلّم من له همة كيف شروط الخدمة، أشدُّ للخدمة وسطى، وأوثقُ بالعزيمة شرطي، ولا أزال واقفاً على قدم، وتلك وظيفة من خدم. لا أجلس بين جُلاّسي،ولا ارفع للنديم رأسي، ولا أَمنعُ المتناول طيب أنفاسي، ولا أنا لعهد من وصلني ناسي، ولا قلبي على من قطعني قاسي. ثم لا يفارق فمي شرب كاس، وهو لي بصفوه كاسي. بُني على قضيب الزبرجد أساسي، وجُعل من العسجد واللجين لباسي، ألمحُ تقصيري فأطرق إطراق الخجل، وأُفكر فيما إليه مصيري فأحدق لهجوم الأجل، والعجيب أنني واقفٌ على التفرقة في مقام الجمع، يُدرك معنى شذاى حاسة الشمَّ لا حاسة السمع، وهذا معنى لا خطر بقلبٍ ولا مر بسمع، فإطراقي اعترافاً بتقصيري، وإطلاقي لأحداقي نظراً فيما غليه مصيري، وفي ذلك أقول:

إنْ يَكُنْ مِنِّي دني أَجَلِـيآهُ واُذلّى وَيَا خَـجَـلِـي
قُمْتُ من ذُلّي على قَدَمِيمُطْرِقاً للرأْسِ من ذَللِـي
لَوْ بَذَلْتُ الرُّوحَ مُجْتَهِـداًوَنَفَيْتُ النَّوم عَنْ مُقَلِـيِ
كُنْتُ بالتَّقصِيِر مُعْتَـرِفـاًخائِفاً من خَيْبَة الأمَـلِـي
إِنْ يَكُنْ للعَبْـدِ سَـابِـقَةٌسَبَقَتْ في الأَعْصُرِ الأوَلِ
لم يكنْ في القَادِمِينَ غـداًنَافِعِي عِلْمِي ولاَ عَمَلِـي
مُقْلتي ما شَأْنـهـا أبَـداًقطّ لاَ يَنْفَعُكَ منْ وَجَـلِ
عَجِلاً في حَتْـفِـهِ وَكَـذاخُلِقَ الإنْسانُ من عَجَـلِ

وقلت أيضاً:

تَأَمَّلْ في رِيَاضِ الرِّوضِ وانظرإلَى آثارِ مَا صَنَعَ الـمَـلِـيكُ
عُيُونٍ مِنْ لجينٍ شـاخـصـاتٍبأحداقٍ كما الذَّهَب السَّـبـيك
عَلَى قَضِيبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِـداتٍبأَنَّ اللـهَ لـيسَ لَـهُ شَـرِيك
وأنَّ مُحَـمَّـداً خَـيْرُ الـبَـرَاياإلى الثَّقَلَيْنِ أَرْسَلَهُ الـمَـلِـيكُ

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق