مواضيع المدونة

الأربعاء، مايو 02، 2012

فصل في الأدلة الموهومة الثلاث: الفطرة ،عليكم بدين العجائز، فهم السلف

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد

قال في كتاب صحيح شرح العقيدة الطحاوية مبطلا الأدلة الموهومة الثلاث:



بعض الناس يستدلون أحيانا كثيرة بأشياء لا تعتبر أدلة شرعية في هذا الباب إنما هي شبه فاسدة وأدلة باطلة، يضعونها في مقالاتهم ومحاضراتهم وخطبهم ويذكرونها في مصنفاتهم فيوهمون بها العامة ليظنوا أنها أدلة شرعية معتبرة مثل استدلالهم بما يسمونه: الفطرة ودين العجائز وكذلك الكتب السماوية المحرفة كالتوراة والإنجيل وفهم السلف والقياس، وها نحن ذا نتعرض لهذه الأمور واحدا واحدا لنبين فساد الاستدلال بها شرعا بموازين الكتاب والسنة لأنها من الأمور الباطلة الخطيرة لتعلقها بالتوحيد والعقيدة ولئلا يبقى الداعية المسلم والواعظ والمدرس حاملا لها ومتحدثا بها غالطا دون أن يجد من ينبهه عليها:

الدليل الموهوم الأول الفطرة يستدل بعض الناس اليوم وفي الزمن السابق بما يسمونه (الفطرة) فيقول أحدهم مثلا: لا أرغب أن أتعلم علم التوحيد وهذه المسائل التي تعرضونها في كتب العقيدة وعلم الكلام إنما أحب أن أبقى على الفطرة!!
ويستدل من يقول بالفطرة بالحديث الصحيح:
(كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) رواه البخاري (3 / 246) ومسلم (4 / 2047).
فيقولون: هذا الحديث يدل على أن المولود يولد على الإسلام لأنه لم يذكر الإسلام فيه فهو الأصل وإنما ذكر تأثير الأبوين أنهما قد يحرفاه إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية قالوا: فيكون معنى الفطرة هنا: الإسلام.

ونقول لهم: أخطأتم في الاستدلال!! لأن هذا الحديث ورد في رواية أخرى صحيحة في صحيح مسلم (4 / 2049) أن النبي ص قال فيه (فإن كانا مسلمين فمسلم)!!
فاتضح بهذه الرواية فساد احتجاج من احتج بحديث الفطرة وقال ما قال فيه!! وإذا كان الأمر كذلك فينبغي لنا أن نوضح ما هو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (يولد على الفطرة) فنقول:


معنى الفطرة هنا أي الخلقة الأصلية التي لم يشبها شئ بعد، لأن المولود يولد ويخرج من بطن أمه لا علم عنده وخاليا من المعلومات بدليل قوله تعالى: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) * النحل: 78، أي لتكسبوا المعلومات وتعقلوا الحقائق بهذه الحواس، فهذه الآية الكريمة قاطعة للشغب في هذه المسألة قطعا تاما والحمد لله.
فمعنى الحديث أن المولود يولد على الخلقة الأصلية السليمة وهي المراد بالفطرة، إذ لا يعتبر هذا المولود مشبعا بأي فكر من الأفكار وخاصة أفكار الكفر والالحاد أو الشرك، فتؤثر فيه بعد ذلك عادات وأحوال واعتقادات المجتمع الذي يعيش فيه فتجعله ينقاد إليها، فإذا بقي كذلك لم يتنبه إلى عقيدة الإسلام الصحيحة الحقة إلا بمن ينبهه عليها، ولذلك بعث الله تعالى الرسل والأنبياء مبشرين ومنذرين وأمر العلماء والدعاة بل جميع المسلمين بالتبليغ!!
وبعض الناس يقولون كما تقدم: لم يقل النبي ص وأبواه يجعلانه مسلما.
ونقول لهم: بل قال النبي ص (فإن كانا مسلمين فمسلم) فقوله صلى الله عليه وآله وسلم (كل مولود يولد على الفطرة) لا يعني أن المولود عندما يولد تولد معه معلومات دينية في مختلف النواحي من العقيدة والفقه والحديث والتفسير وغيرها،  كما لا يعني ذلك ما يقولونه: من إن معرفة الله تعالى أمر مركوز في الفطر، لقوله تعالى كما تقدم * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) *!!
حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولدوا ولم تكن معهم معلومات إلا من أنطقهم الله تعالى في المهد على سبيل المعجزة والعبرة للخلق، ومن ذلك قول الله تعالى * (ووجدك ضالا فهدى) * أي: ووجدك لا تعرف ما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها، وقال تعالى: * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) *!!
وبعضهم يورد مع الحديث الذي تكلمنا عليه وبينا معناه قوله تعالى * (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) * وليس معناه ما يتوهمون ويوهمون!!
فلو كان الناس قد خلقوا وفطروا وطبعوا على الإيمان (والتوحيد ومعلومات العلو!!) التي قال الله عنها * (لا تبديل لخلق الله) * لم يستطع أحد أن يكفر ويخرج من الإسلام لأنه لا طاقة لمخلوق أن يغير ما قال الله عنه: لا تبديل له، ونحن نرى الأمر في الواقع بخلاف ذلك فنرى من الناس من يكفر ويرتد عن دينه!!
فصار إذا أن لها معنى آخر غير ما خطر ببال المجسمة والمشبهة وأذاعوه!!
وهو ما قاله الحذاق من أن الفطرة هنا هي القابلية التي خلقها الله تعالى في الإنسان للنظر في مصنوعات الله، والاستدلال بها على موجده، فيؤمن به ويتبع شرائعه، لكن قد تعرض له عوارض تصرفه عن ذلك كتهويد أبويه له وتنصيرهما وإغوائهما له وإغواء شياطين الإنس والجن * (لا تبديل لخلق الله) * أي (لا تبديل لهذه القابلية) من جهة الخالق. أفاده الحافظ أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط 8 / 389 وعقول المجسمة لا تصل لفهم كتاب الله الكريم ولا لسنة النبي الرؤوف الرحيم!! فتنبهوا!!
ومن ذهب إلى غير ما قلناه وقررناه هنا لزمه القول بتناقض الآيات وحاشاها من ذلك!! 

بل إن الاستدلال بالفطرة التي يزعمونها يستلزم هدم كثير من الآيات والأحاديث!! فالآيات الحادثة على التفكر في خلق السماوات والأرض والآيات التي فيها الأمر بالنظر في المخلوقات لا قيمة لها ولا معنى من إيرادها ساعتئذ ما دام أن معرفة الله تعالى والإيمان بوجوده أمر مركوز في الفطر كما يزعمون، ولماذا أرسل الله تعالى الرسل يثبتون للكفار وجود الله تعالى حتى يؤمنوا به ما دام أن الأمر مركوز في النفوس؟! ومنه قول الله تعالى * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * إلى قوله * (فبهت الذي كفر) * وقوله تعالى في قصة سيدنا موسى عليه السلام أن فرعون قال له: * (قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) * طه. 49 - 50؟!!
فقول من قال: (أما عوام المسلمين فالأصل فيهم أنهم على عقيدة السلف لأنها الفطرة التي يولد عليها الإنسان وينشأ عليها المسلم بلا تلقين ولا تعليم (123) من حيث الأصل فكل من لم يلقنه المبتدعة بدعتهم ويدرسوه كتبهم فليس من حق أي فرقة أن تدعيه إلا أهل السنة والجماعة) ا ه‍!!!
هو قول متهافت!! وهو خطأ مجانب لنصوص الكتاب والسنة!! بل هو مجانب للواقع تماما! فإن الله تعالى أرسل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليعلموا الناس التوحيد والشرائع ولم يأت في نص واحد أن الله تعالى قال: إذا أردتم أن تعرفوا عقيدة السلف الحقة فعليكم أن تسألوا الأطفال الصغار لأنهم ولدوا عليها بفطرتهم، كما لم يأت عن النبي ص نص واحد يقول ذلك!!
وما فائدة إرسال الرسل حينئذ إذا كان الناس يولدون على عقيدة السلف التي يدعيها هؤلاء؟!! ولماذا إذن بقي النبي ص ثلاث عشرة سنة في مكة يعلم الناس العقيدة الصحيحة التي أرسله الله تعالى بها ويزرعها ويغرسها في قلوب أصحابه الكرام رضي الله عنهم؟!!!
زد على ذلك أن هناك أقواما كثرا كانوا في الجاهلية الجهلاء قبل إرسال الرسل إليهم وآخرين عاشوا في وسط الأدغال ولم يخرجوا على عقيدة السلف ولا على عقيدة الإسلام، وإنما كانوا على عقيدة عبادة العجل أو النار أو الأصنام أو الكواكب أو غير ذلك مع أن أهل البدعة لم يلقنوهم ذلك!! وإنما تركوا بلا تلقين ولا تعليم!!
فلعل عقيدة أصحاب الأدغال تلك هي عقيدة المجسمة والمشبهة الذين يحتجون بالفطرة!! وينشرون الاستدلال بها اليوم في المشرق والمغرب!! مستغلين الضحالة العلمية الملموسة عند غالب أهل هذا العصر!!
والله يتولى هدانا إلى الصراط المستقيم!!
وبذلك تبين لنا بكل وضوح أن ما يسمونه دليل الفطرة ليس دليلا شرعيا معتبرا ولا يصح لأي إنسان أن يستدل به لأنه إذا استدل به خالف نصوص الكتاب والسنة كما قدمنا.

الدليل الثاني الموهوم:: عليكم بدين العجائز:
ومن الأدلة الفاسدة التي لا عبرة بها قول بعضهم (عليكم بدين العجائز) أو أهل البادية وما شابه ذلك، وهذا دليل باطل لا يصح أن يستدل به في مسائل العقيدة ولا في غيرها، وقد نص أهل الحديث كالحافظ السخاوي في كتابه (المقاصد الحسنة) ص (260 حديث رقم 714) على أن هذه العبارة لا أصل لها بهذا اللفظ.
قلت: ولا بغير هذا اللفظ على التحقيق.
والعجائز كسائر البشر منهم العالم المتفقه في دينه ومنهم الجاهل المفرط في أمره ومنهم التقي ومنهم العاصي إلى غير ذلك، ولم يكن في يوم من الأيام لهم اتفاق وإجماع أو عقيدة خاصة مشهورة معروفة متداولة حتى يقال هذه دين العجائز، ثم في هذا انصراف عن دين الإسلام!! فإما اتباع دين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإما دين العجائز، وبعضهم ينقل هذا الكلام أو نحوه عن سيدنا عمر وبعضهم عن عبد الله ابن المبارك وكله باطل لا يصح عنهم. ولو صح لم يكن فيه حجة مع أنه لم يصح والله الهادي.
وقد روى ابن ماجة (4049) والحاكم (4 / 473) عن سيدنا حذيفة مرفوعا (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ويقولون أدركنا آبائنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها) وإسناده صحيح ولا دلالة فيه إلا على كلمة التوحيد التي جاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بها وبينوا معناها للخلق وأوضحوا شرحها لهم وما حوت من العقائد.
ومن الأحاديث الموضوعة المكذوبة في هذا الموضوع أيضا: ما رواه ابن حبان في كتاب (المجروحين) (2 / 264) عن ابن عمر مرفوعا:
(إذا كان آخر الزمان واختلفت الأهواء فعليكم بدين أهل البادية والنساء).
قال الصغاني (موضوع) [انظر (فيض القدير) (1 / 424) و (المقاصد الحسنة) للحافظ السخاوي ص (290)].
قلت: وأورده شيخنا المحدث عبد العزيز بن الصديق في كتابه (التهاني في التعقب على موضوعات الصغاني) ص (55) وقال: (وهو واه أيضا).
وقد ذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (19 / 119) في ترجمة أبي المظفر السمعاني ما نصه:
(وقال أبو سعد: سمعت أبا الأسعد ابن القشيري يقول: سئل جدك بحضور والدي عن أحاديث الصفات فقال: عليكم بدين العجائز).
قلت: مرادة إن صح هذا أنه أمر عاميا أن يكون في عقيدته كإيمان العجائز من حيث عدم تزلزل يقينه بتنزيه الله تعالى بأحاديث آحاد يوهم ظاهرها عند من يحاول فهمها بغير لغة العرب التشبيه والتجسيم لا من حيث أن للعجائز دين خاص بهم!!
وقد أعجبني ما قاله المعلق على هذه العبارة في (السير) حيث قال هناك:
[ويستبعد صدور مثل هذا عن مثل هذا الإمام الذي ألف التآليف المتعددة في العقائد والعبادات والمعاملات، وكلها مقرونة بالأدلة والحجج والبينات، اللهم إلا إذا قالها في حالة ضعف وذهول، وفي مثل هذه الحالة لا يعتد بما يقوله صاحبها المتلبس بها، وكيف ينصح مسائليه بأن يلزموا دين العجائز، والله سبحانه يحثنا في غير ما آية من كتابه على النظر والاستدلال، والأئمة المجتهدون اتفقوا على وجوب الاهتداء بالقرآن، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وعلى المنع من التقليد الذي يصد عنهما، ويقتضي هجرانهما، ولم يجعلوا أنفسهم شارعين يطاعون، وإنما كانوا أدلاء للناس لعلهم يهتدون، والذي يعرفه كل واقف على تاريخ الصدر الأول من المسلمين، هو أن أهل القرنين الأول والثاني لم يكونوا يقلدون أحدا، أي لم يكونوا يأخذون بآراء الناس وأقوال العلماء، بل كان العامي منهم على بينة من دينه يعرف من أين جاءت كل مسألة يعمل بها من مسائله، إذ كان علماء الصدر الأول يلقنون الناس الإسلام ببيان كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ص، وكان الجاهل بالشئ يسأل عن حكم الله فيه، فيجاب بأن الله تعالى قال كذا، أو أن النبي ص قال كذا، أو فعل كذا، أو أقر على كذا، فإن لم يكن عند المسؤول فيه هدي من كتاب أو سنة ذكر ما جرى عليه الصالحون، وما يراه أشبه بما جاء في هذا الهدي، أو أحال على غيره ممن هو أعلم منه، وأقرب الناس إلى معرفة الحق في المطالب العالية هو الباحث المستقل الذي يسترشد بالطريقة التي وردت في القرآن، وجاءت على لسان نبيه ص].

الدليل الثالث الموهوم: فهم السلف:
يدعي بعض الناص بأنه يجب فهم الكتاب والسنة بفهم السلف وهم بذلك يعتبرون فهم السلف من الأدلة الشرعية الواجب أتباعها وقولهم هذا يتضمن مغالطتين:
الأولى: أن السلف غير متفقين في فهم المسائل فليس لهم مذهب موحد معروف حتى يصح أن يقال مذهب السلف أو فهم السلف أو يجب فهم الأمور بفهم السلف، وستمر بعد قليل إن شاء الله تعالى أمثلة اختلاف السلف في مسائل عقائدية وغير عقائدية في فصل خاص وبالله تعالى التوفيق.
وهؤلاء الذين يدعون الناس إلى فهم السلف نراهم ينافرون فهم الأئمة الأربعة للمسائل الشرعية ويحثون إما على تقليدهم في فهمهم للأمور أو على فهم أناس بعد القرون الثلاثة المسماة بقرون السلف!!
والمغالطة الثانية: أنه ليس في الكتاب والسنة دليل يفيد أنه يجب تعطيل العقول التي وهبنا الله سبحانه وتعالى إياها وفهم الكتاب والسنة بفهم غيرنا ما دام أن المرء وصل إلى درجة الفهم والاجتهاد!!
بل نقول لهؤلاء: إن النصوص الشرعية تخاطبنا مباشرة لنفهم أوامر الله تعالى ونواهيه دون تحريف أو لي لها، فقول الله تعالى في آيات كثيرة مثلا * (يا أيها الذين آمنوا) * عام يشمل السلف والخلف والمتقدم والمتأخر إلى قيام الساعة.
بل يقطع الشغب في هذه المسألة قوله تعالى * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * هو صريح بأن علم أو فهم أهل الاستنباط وهم المجتهدون في كل عصر ومصر معتبر، ولم يخص ذلك بالسلف، حيث لم يقل بأن أهل الاستنباط من السلف هم الذين يعلمون الأحكام ويفهمونها دون غيرهم من الخلف، وفي هذا دليل واضح على هدم الاستدلال بفهم السلف وجعله أحد الأدلة الشرعية، بل الصواب أن يقال: إن فهم 

(123) وما فائدة إرسال الأنبياء والمرسلين إذن إذا كان الناس ينشأون على عقيدة السلف المباركة!! بلا تلقين ولا تعليم؟!! ما هذا إلا هراء يلتقي مع قول من قال إن العقل وحده كاف قي معرفة الإنسان لربه وعلمه به وبالشرائع دون مرشد!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المجتهدين سواء كانوا من الخلف أو من السلف معتبر شرعا بالنسبة للعامي الذي لم يتأهل لفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، وإجماع هؤلاء المجتهدين في أي عصر من العصور سواء في زمن السلف أم الخلف هو المعتبر شرعا وهو من الأدلة الشرعية، وما سوى ذلك هذيان!!
ثم إن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * النساء: 59 ولم يقل ردوه إلى فهم السلف لهما!!
ويؤيد هذا ما جاء في صحيح البخاري (1 / 204) وغيره عن أبي جحيفة قال:
قلت لعلي (رضوان الله عليه) هل عندكم كتاب؟ قال: (لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم..).
قلت: ولم يقيد ذلك بالسلف فلم يقل إلا فهم السلف للكتاب والسنة!!
بل قال: (فهم أعطيه رجل مسلم) وهذا يعم المسلمين في كل عصر ومصر ولا يختص بالسلف!! فمن تأهل للفهم كان له ذلك وليس لأحد أن يلزمه بفهم السلف!! ونعتقد أن القائلين بوجوب اتباع فهم السلف متخابطون متناقضون في هذه المسألة!!
وجاء في الحديث الصحيح (مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره) (124) فهذا كما ترى فيه تصريح بأن للخلف فضل أيضا كما للسلف!!
وقال الحافظ ابن الجوزي في (دفع شبه التشبيه) ص (111): (وقد سئل الإمام أحمد عن مسألة فأفتى فيها فقيل له: هذا لا يقول به ابن المبارك، فقال:
ابن المبارك لم ينزل من السماء)!!


(124) رواه أحمد (3 / 130) والترمذي (5 / 152 برقم 2869) وقال: (حسن غريب من هذا الوجه) قال السيد الحافظ أحمد الغماري في (فتح الوهاب) (2 / 335): (وقال الحافظ في الفتح: هذا حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة) أنظر الفتح (7 / 6) وهناك الجمع مع باقي الأحاديث في هذا الموضوع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: أي أن فهم السلف ليس بحجة يلزمنا العمل بها بنظره (125)!!
فصل في بيان أنه ليس هناك مذهب يسمى مذهب السلف لقد ذكرنا في بعض كتبنا بتوسع بأن بعض الناس في هذا العصر يدعون بأن الذي يقولونه من آراء وأقوال هو مذهب السلف تمويها على العامة والبسطاء ليروجوا عليهم ما يريدون من أقوال وآراء مخطئة!! وقد ادعى هؤلاء وخاصة المجسمة والمشبهة منهم بأن ما يقولونه هو مذهب السلف!! وادعى هؤلاء المشبهة والمجسمة أن فهمهم للمسائل هو مذهب السلف وهو المرجع الشرعي الذي لا يجوز العدول عنه!! وهم في الواقع قد عدلوا عن الصراط المستقيم، والطريق السوي القويم، لأنهم تركوا الكتاب والسنة وفهم العرب لهما وراءهم ظهريا، مع اعتمادهم على سراب بقيعة اخترعوه للتمويه، واعتمدوه للخداع والتشويه، لا وجود له في الواقع البتة بل هو خيال قائم في أذهانهم ويموهون به على البسطاء من غيرهم (وهو

(125) ومن الغريب العجيب أن نجد هؤلاء الذين يتظاهرون بالدعوة إلى مذهب السلف وإلى فهم السلف يتخابطون ويتناقضون في هذه القضية جدا!! ومن ذلك أننا نقرأ على أغلفة كتب كثير منهم وخاصة الشيخ المتناقض!! أن من أسس دعوتهم (فهم الكتاب والسنة بفهم السلف) وبعضهم يقول (على النهج الذي كان عليه السلف) ثم نجد أحدهم وهو من مريدي!! وتلاميذ!! الشيخ المتناقض!! يناقض ذلك فيقول في رسالة له أسماها (الإنصاف في أحكام الاعتكاف) ص (35 طبع المكتبة الإسلامية عمان - الأردن الطبعة الأولى سنة 1407 ه‍): ما نصه: (زد على ذلك أننا لسنا متعبدين بفهم أحد كائنا من كان سواء أكان ابن مسعود (الصحابي) أم غيره إنما نحن تعبدنا بنص رسول الله ص الثابت عنه)!!
فيا للعجب!! ويا للتناقض!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولهم: هذا مذهب السلف)!!
فهذا الإمام أحمد يقول وقد سئل عن مسألة فأفتى فيها، فقيل له: هذا لا يقول به ابن المبارك. فقال: ابن المبارك لم ينزل من السماء (126). مع أن ابن المبارك سلف للإمام أحمد. وهذا الإمام أبو حنيفة قبل أحمد يقول: ما جاء عن رسول الله ص فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترنا، وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال. وسنضرب الآن إن شاء الله تعالى أمثلة نبين فيها اختلاف السلف في مسائل عقائدية، وأمور مذكورة في الكتب التوحيدية، تدل دلالة واضحة على نسف برهان المجسمة الذي اعتمدوه، ودك دليلهم الذي انتحلوه، مع أن السلف نصوا على بطلانه.
والعجب العجاب أن هؤلاء المجسمة - مع ادعائهم بأن الذي يقولونه هو مذهب السلف وأنه متفق ومجمع عليه بين الأمة - نجدهم هم أنفسهم قد اختلفوا في أصول الدين!! وتباينوا في أسس التوحيد المبين!! فكيف يدعون اتفاق السلف في المسائل التوحيدية؟! وهم مختلفون فيها بآرائهم التناقضية!! وأقوالهم التعاكسية!! كما بينت بعض نماذج من ذلك في كتابي المسمى ب‍ (البشارة والإتحاف)، بما بينهم من الخلاف، ويكفي هذا على إثبات أنه ليس هناك وجود لما زعموه من مذهب السلف، الذي ادعاه هؤلاء المشبهة من الخلف، وها نحن ذا نذكر نماذج من اختلاف السلف في مسائل عقائدية فنقول:
المثال الأول في اختلاف السلف في العقائد: اختلاف السلف في مسألة خلق القرآن:
قال الحافظ ابن عبد البر في كتابه (الانتقاء) ص (106) عن الإمام الحافظ الكرابيسي ما نصه بعدما أثنى عليه: (وكانت بينه وبين أحمد بن حنبل صداقة وكيدة، فلما خالفه في القرآن عادت تلك الصداقة عداوة، فكان كل منهما يطعن

(126) ذكرها الإمام الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في (دفع شبه التشبيه) ص (111).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على صاحبه، وذلك أن أحمد بن حنبل كان يقول: من قال القرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: القرآن كلام الله ولا يقول غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفي، ومن قال لفظي في القرآن مخلوق فهو مبتدع (127).
وكان الكرابيسي، وعبد الله بن كلاب، وأبو ثور، وداود بن علي، والبخاري، والحارث بن أسد المحاسبي، ومحمد بن نصر المروزي، وطبقاتهم يقولون: إن القرآن الذي تكلم الله به صفة من صفاته، لا يجوز عليه الخلق، وإن تلاوة التالي وكلامه بالقرآن كسب له وفعل له وذلك مخلوق، وإنه حكاية عن كلام الله، وليس هو القرآن الذي تكلم الله به، وشبهوه بالحمد والشكر لله، وهو غير الله، فكما يؤجر في الحمد والشكر والتهليل والتكبير فكذلك يؤجر في التلاوة).
وقال الحافظ الذهبي في ترجمة الكرابيسي في (السير) (12 / 80): (وهو أول من فتق اللفظ) وقال في آخر الترجمة:
(ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرره في مسألة التلفظ وأنه مخلوق هو حق).
قلت: وعلى ذلك الحق مشى البخاري ومسلم والأئمة كما تقدم، أما البخاري فقد تقدم ذكره في كلام الأئمة ومنهم الحافظ ابن عبد البر، وأما الإمام مسلم فقد قال الذهبي قي ترجمته في (السير) (12 / 572):
(كان مسلم بن الحجاج يظهر القول باللفظ ولا يكتمه).
فمن تأمل في هذه المسألة المشهورة المتداولة المعروفة عرف أن هؤلاء الأئمة الأعلام الذين خالفوا أحمد والذهلي وأبا زرعة وأبا حاتم وهم: البخاري ومسلم والكرابيسي وابن كلاب وأبو ثور وداود بن علي والحارث بن أسد المحاسبي ومحمد بن نصر المروزي وطبقاتهم كانوا مختلفين في مسألة من مسائل العقيدة تتعلق بكلام رب العالمين سبحانه وهم من السلف وقد اختلفت أفهام السلف في هذه المسألة وفهموها أفهاما متضاربة متعاكسة، فبأي فهم من هذه الفهوم نأخذ؟! وبأي رأي من هذه الآراء نتمسك؟!
الجواب: لا بد أن نترك هذه الأفهام ونرجع إلى الكتاب والسنة واللغة العربية ونستعمل عقولنا لنفهم ونتدبر الأمر فسيتضح لنا ساعتئذ الصواب، فنعرف آنذاك من أصاب ومن أخطأ فالرجوع حقيقة لفهمنا لا لفهم السلف، هذا هو التحقيق بالنسبة لأهل العلم ولطلاب العلم المجدين، أما العامة فليس كلامنا ههنا يتعلق بهم لأنهم ليسوا أهلا للنظر.
المثال الثاني في اختلاف السلف في العقائد: اختلافهم في رؤية سيدنا محمد ص لله تعالى ليلة الإسراء وقد وقع الخلاف فيها بين السيدة عائشة وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما كما سيأتي مبينا في بابه من هذا الشرح.

ومن أراد الإطلاع أكثر فليراجع الكتاب

(١٢٧) وفي بعض الروايات كفر أحمد بن حنبل من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، كما تجد ذلك في كثير من المراجع.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق