مواضيع المدونة

السبت، أبريل 21، 2012

من كتاب روائع نهج البلاغة لجورج جرداق

 بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد


اقتطفت هذه الوردة الفياحة من كتاب روائع نهج البلاغة للأديب المعروف جورج جرداق وها هو المقتطف:


من تتبع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقي منهم أو غربي ولا قديم ومحدث، أدرك ظاهرة لا تخفى وهي أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تباين مذاهبم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة والضعف.
فهم بين منتج خلاق، ومتذوق قريب التذوق من الإنتاج والخلق. حتى لكأن الحس الأدبي، بواسع دنيواته ومعانيه وأشكاله، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم.
فنظرة واحدة إلى الأنبياء، مثلا، تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان. فما داود وسليمان وأشعيا وأرميا وأيوب والمسيح ومحمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب الخاصة بهم. وهذا نابليون القائد، وأفلاطون الفيلسوف، وباسكال الرياضي، وباستور العالم الطبيعي، والخيام الحسابي، ونهرو رجل الدولة وديغول السياسي، وابن خلدون المؤرخ، إنهم جميعهم أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصاف ذوي الشأن من أهله. فلكل منهم لون من ألوان النشاط الفكري حدده الطبع والموهبة، ثم رعت النزعة الجمالية ما دخل منه في نطاق التعبير، فإذا هو من الأدب الخالص.


هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب فإذا هو الإمام في الأدب، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علم وهدى، وآيته في ذلك (نهج البلاغة) الذي يقوم في أسس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أسس، وتتصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر.

أما البيان فقد وصل علي سابقه بلاحقه، فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المتحد بالفطرة السليمة اتحادا مباشرا، إلى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة والمنطق القوي اتحادا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية ومن سحر البيان النبوي، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق).
ولا عجب في ذلك، فقد تهيأت لعلي جميع الوسائل التي تعده لهذا المكان بين أهل البلاغة. فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد الله، وتلقى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة وقوة. أضف إلى ذلك استعداداته الهائلة ومواهبه العظيمة، فإذا بأسباب التفوق تجتمع لديه من الفطرة ومن البيئة جميعا.
أما الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له في كل عبارة من (نهج البلاغة) عملا عظيما.
وهو ذكاء حي، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار. إذا هو عمل في موضوع أحاط به بعدا فما يفلت منه جانب ولا يظلم منه كثير أو قليل، وغاص عليه عمقا، وقلبه تقليبا وعركه عركا، وأدرك منه أخفى الأسباب وأمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتبة على تلك الأسباب: ما قرب منها أشد القرب، وما بعد أقصي البعد.
ومن شروط الذكاء العلوي النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنى اتجهت.
وهذا التماسك بين الفكرة والفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية لما قبلها وعلة لما بعدها. ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه. بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه. وهو لاتساع مداه، لا يستخدم لفظا إلا وفي هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل وتمعن في التأمل، ولا عبارة إلا وتفتح أمام النظر آفاقا وراء ها آفاق.

فعن أي رحب وسيع من مسالك التأمل والنظر يكشف لك قوله: (الناس أعداء ما جهلوا) أو قوله: (قيمة كل امرئ ما يحسنه). أو الفجور دار حصن ذليل).
وأي إيجاز معجز هو هذا الإيجاز: من تخفف لحق) وأي جليل من المعنى في العبارات الأربع وما تحويه من ألفاظ قلائل فصلت تفصيلا، بل قل أنزلت تنزيلا.
ثم عن أي حدة في الذكاء واستيعاب للموضوع وعمق في الإدراك، يشف هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد وصفة نفسه وحقيقة حاله: (ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم وقلب هائم وحزن لازم. مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملك!).
ويستمر تولد الأفكار في (نهج البلاغة) من الأفكار فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي.
وهي مع ذلك لا تتراكم، بل تتساوق ويترتب بعضها على بعض. ولا فرق في ذلك بين ما يكتبه علي وما يلقيه ارتجالا. فالينبوع هو الينبوع ولا حساب في جريه لليل أو نهار.
ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم وإنك لتدهش، أمام هذا المقدار من الإحكام والضبط العظيمين، حين تعلم أن عليا لم يكن ليعد خطبة ولو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.
فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت ولا إجهاد، كالبرق إذ يلمع ولا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه. وكالصاعقة إذ تزمجز ولا تهئ نفسها لصعق أو زمجرة.
وكالريح إذ تهب فتلوي وتميل وتكسح وتنصب على غاية ثم إلى مداورها تعود ولا يدفعها إلى أن تروح وتجئ إلا قانون الحادثة ومنطق المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل ولا بعد!
ومن مظاهر الذكاء الضابط القوي في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان علي يضبط بها بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه وتعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تغرقه في محيط من الأحزان والكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء ومضاء، فإذا هو آمر مطاع.
ومن ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوع البحث والوصف فأحكم في كل موضوع ولم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث. فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا وشؤون الناس، وطبائع الأفراد والجماعات. وهو يصف البرق والرعد والأرض والسماء. ويسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف.
خفايا الخلق في الخفاش والنملة والطاووس والجرادة وما إليها. ويضع للمجتمع دساتير وللأخلاق قوانين. ويبدع في التحدث عن خلق الكون وروائع الوجود.
وإنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم والمنطق المحكم في مثل هذا الأسلوب النادر.
أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفاق الجوانح في كل أفق. وبفضل هذا الخيال القوي الذي حرم منه كثير من حكماء العصور ومفكري الأمم، كان علي يأخذ من ذكائه وتجاربه المعاني الموضوعية الخالصة، ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبت على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون. فالمعنى مهما كان عقليا جافا، لا يمر في مخيلة علي إلا وتنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود وتمده بالحركة والحياة فخيال علي نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع، فيحيط بهذا الواقع ويبرزه ويجليه، ويجعل له امتدادات من معدنه وطبيعته، ويصبغه بألوان كثيرة من مادته ولونه، فإذا الحقيقة تزداد وضوحا، وإذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه!
وقد تميز علي بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن وتتسع. وقد مر من أطوار حياته بعواطف جرها عليه حقد الحاقدين ومكر الماكرين، ومر منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين وإخلاص المخلصين. فتيسرت له من ذلك جميعا عناصر قوية تغذي خياله المبدع. فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال وتتساوق في لوحات رائعة حية، شديدة الروعة والحيوية، تتركز على واقعية صافية تمتد لها فروع وأغصان، ذات أوراق وأثمار!
ومن ثم يمكنك، إذا أنت شئت أن تحول عناصر الخيال القوي في نهج البلاغة إلى رسوم مخطوطة باللون، لشدة واقعيتها واتساع مجالها وامتداد أجنحتها وبروز خطوطها. ألا ما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة وكان بنفسه ألم منهم بعد موقعة الجمل، قائلا:
(لتغرقن بلدتكم حتى كأنني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ طير في لجة بحر.
أو في مثل هذا التشبيه الساحر: (فتن كقطع الليل المظلم).
أو هذه الصورة المتحركة: (وأنما أنا كقطب الرحى: تدور علي وأنا بمكاني!) أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة وتبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور: (ويل لسكككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة!) ومن مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل. والتمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة. وإن شئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس ويتمنون ما هو فيه من حال، ولكنه أعلم بموضعه من الخوف والحذر، فهو وإن أخاف بمركوبه إلا أنه يخشى أن يغتاله. ثم انظر بعد ذلك إلى علي كيف يمثل هذا المعنى يقول، (صاحب السلطان كراكب الأسد: يغبط بموقعه، وهو أعلم بموضعه) وإن شئت مثلا آخر فاستمع إليه يمثل حالة رجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضرار بنفسه، فيقول، (إنما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه!) والردف هو الراكب خلف الراكب. ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب: (إياك ومصادقة الكذاب.
فإنه كالسراب: يقرب عليك البعيد ويبعد عنك القريب!) أما النظرية الفنية القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن، فهي إن صحت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا. فما أهول الموت وما أبشع وجهه. وما أورع كلام ابن أبي طالب فيه وما أجمل وقعه. فهو قول آخذ من العاطفة العميقة نصيبا كثيرا، ومن الخيال الخصب نصيبا أوفر. فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلا لوحات عباقرة الفنون في أوربا ساعة صوروا الموت وهوله لونا ونغما وشعرا.
فبعد أن يذكر علي الأحياء بالموت ويقيم العلاقة بينهم وبينه، يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قاتم ونغم حزين: (فكأن كل امرئ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، فيا له من بيت وحدة، ومنزل وحشة، ومفرد غربة!) ثم يهزهم بما هم مسرعون إليه ولا يدرون، بعبارات متقطعة متلاحقة وكأن فيها دوي طبول تنذر تقول (ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر!) بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل، وتشعلها العاطفة، ويجسم الخيال الوثاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة وهي بين عيون تدمع وأصوات تنوح وجوارح تئن، قائلا:
(وإنما الأيام بينكم وبينهم بوأك ونوائح عليكم). ثم يعود فيطلق لعاطفته وخياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحي:
(ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا، وبالسمع صمما، وبالحركات سكونا.
فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات ! جيران لا يتآنسون، وأحباء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف، وانقطعت منهم أسباب الإخاء. فكلهم وحيد وهم جميع، وبجانب الهجر وهم أخلاء، لا يتعارفون لليل صباحا، ولا لنهار مساء. أي الجديدين  ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا ) ثم يقول هذا القول الرهيب: (لا يعرفون من أتاهم، ولا يحفلون من بكاهم، ولا يجيبون من دعاهم!) فهل رأيت إلى هذا الإبداع في تصوير هول الموت ووحشة القبر وصفة سكانه في قوله: (جيران لا يتآنسون وأحباء لا يتزاورون!) ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية علي: (أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا!) ومثل هذه الروائع في (النهج) كثير.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق