مواضيع المدونة

الخميس، أبريل 26، 2012

خاتمة كتاب المشاعر

 بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و آل سيدنا محمد 



هذا مقال هو ختام كتاب المشاعر للملا صدرا قدس سره أوردته لفائدته الكبيرة:

اعلم أن الطرق إلى الله تعالى كثيرة لأنه ذو فضائل وجهات غير عديدة ولكل وجهة هو موليها لكن بعضها أنور وأشرف وأحكم وأشد البراهين. وأوثقها وأشرفها إليه وإلى صفاته وأفعاله هو الذي لا يكون الوسط في البرهان غيره. فيكون الطريق إلى البغية من البغية لأنه البرهان على كل شيء. وهذه سبيل جميع الأنبياء والصديقين سلام الله عليهم أجمعين قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى فهؤلاء هم الذين يستشهدون به تعالى عليه شهد الله أنه لا إله إلا هو. ثم يستشهدون بذاته تعالى على صفاته وبصفاته على أفعاله وآثاره واحدا بعد واحد.
وغير هؤلاء يتوسلون في السلوك إلى معرفته تعالى وصفاته بواسطة أمر آخر غيره كجمهور الفلاسفة بالإمكان والطبيعيين بالحركة للجسم والمتكلمين بالحدوث للخلق أو غير ذلك. وهي أيضا دلائل وشواهد لكن هذا المنهاج أحكم وأشرف. وقد أشير في الكتاب الإلهي إلى تلك الطرق بقوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. وإلى هذه الطريقة أشار بقوله أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.
فالربانيون ينظرون إلى حقيقة الوجود أولا ويحققونها ويعلمون أنها أصل كل شيء وأنها واجب الوجود بحسب الحقيقة. وأما الإمكان والحاجة والمعلولية فإنما تلحق الوجود لا لأجل حقيقته بل لأجل نقائص وأعدام خارجة عن أصل حقيقته. ثم بالنظر فيما يلزم الوجوب والإمكان والغنى والحاجة يصلون إلى توحيد صفاته ومن صفاته إلى كيفية أحواله وآثاره.
وقد مر فيما أسلفنا من البرهان ما بزغ به نور الحق من أفق البيان وطلعت شمس الحقيقة من مطلع العرفان من أن الوجود كما مر حقيقة بسيطة لا جنس لها ولا فصل لها ولا حد لها ولا معرف لها ولا برهان عليه وليس الاختلاف بين آحادها وأعدادها إلا بالكمال والنقص والتقدم والتأخر والغنى والحاجة أو بأمور عارضة كما في أفراد ماهية واحدة. وغاية كمالها هي صرف الوجود الذي لا أتم منه وهي حقيقة الواجبية البسيطة المقتضية للكمال الأتم والجلال الأرفع وعدم التناهي في الشدة إذ كل مرتبة دون تلك المرتبة في الشدة ليست هي صرف الوجود بل مع قصور ونقص.
وقصور الوجود ليس من حقيقة الوجود ولا من لوازمه لأنه عدم. والعدم سلب أصل الوجود أو سلب كماله والأول تعالى لا يجامعه وهو ظاهر فالقصور لاحق لا لأصل الوجود بل لوقوعه في مرتبة ثانية وما بعدها. فالقصورات والأعدام إنما طرأت للثواني من حيث ثانويتها وتأخرها. فالأول على كماله الأتم الذي لا نهاية له.
والعدم والافتقار إنما ينشئان عن الإفاضة والجعل ضرورة أن المجعول لا يساوي الجاعل والفيض لا يساوي الفياض في مرتبة الوجود. فهويات الثواني متعلقة على ترتيبها بالأول فتنجبر قصوراتها بتمامه وافتقارها بغنائه. وكل ما هو أكثر تأخرا عنه فهو أكثر قصورا وعدما.
فأول الصوادر عنه تعالى يجب أن يكون أجل الموجودات بعده وهو الوجود الإبداعي الذي لا إمكان له إلا ما صار محتجبا بالوجوب الأول وهو عالم الأمر الإلهي. ولا يسع فيه إلا الأرواح القادسة على تفاوتها في القرب من الذات الأحدية لأنها بمنزلة الأضواء الإلهية. والعبارة عن جملتها روح القدس لأنها كشخص واحد. وهي ليست من العالم ولا واقعة تحت  قول كن لأنها نفس الأمر والقول. وبعدها مرتبة النفوس على درجاتها.
ثم الطبائع والصور على مراتبها. ثم بسائط الأجسام واحدا بعد واحد إلى المادة الأخيرة التي شأنها القبول والاستعداد وهي النهاية في الخسة والظلمة. ثم يترقى الوجود منها بالتلطيف والتكميل راجعا إلى ما نزل منه عائدا إلى ما بدأ منه بتهيج المواد وتحريك الأجساد وإحداث الحرارة المهيجة السماوية في الاسطقسات من تداوير النيرات الموجبة لنشء النبات بعد الجماد وسياقة المركبات إلى درجة قبول الحياة وتشويق النفوس إلى أن تبلغ إلى درجة العقل المستفاد الراجعة إلى الله الجواد.
فانظر إلى حكمة المبدع البديع: كيف أبدع الأشياء وأنشأ الأكوان من الأشرف فالأشرف. فأبدع أولا أنوارا قدسية وعقولا فعالة تجلى بها وألقى فيها مثاله. فأظهر منها أفعاله واخترع بتوسطها أجساما كريمة صافية نيرة ذوات نفوس حيوانية دائمة الحركات تقربا إلى الله وعبودية له. وحملها في سفينة ذات ألواح ودسر جارية في بحر القضاء والقدر بسم الله مجراها ومرساها وإلى ربك منتهاها.
وجعلها مختلفة في الحركات. ونسب أضواء النيرات المعدة لنشء الكائنات. ثم خلق هيولى العناصر التي هي أخس الممكنات وهي نهاية تدبير الأمر فإنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض. ثم يعرج إليه بتكوين الجماد من تعديل العناصر والأركان. ثم النبات من صفوتها. ثم الحيوان. ثم الإنسان. وإذا استكمل بالعلم والكمال بلغ إلى درجة العقل الفعال. فيه وقف تدبير الخير والجود واتصل بأوله آخر دائرة الوجود.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق