مواضيع المدونة

الجمعة، أبريل 27، 2012

رسالة لأهل النسبة


 بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وسلم

هذه رسالة الشيخ العلاوي قدس سره لأهل النسبة الصوفية:

معتمدا على الله فيما أقوله قاصدا كلّ خير فيما أقوله، أو أشر به أو عليه، والله يقول الحق،ّ وهو يهدي السبيل.
إنّ الطريقة قد كانت فيما سلف حالا ومقالا وفعالا، وهو العصر الذي كان فيه التصوّف النجم الذي لا يدرك والبحر الذي لا يعبر إلاّ لمن رضي بقتل نفسه وفنائه عن حسّه، ثمّ جاء عصر يكتفي فيه من المريد بشيء من اقتفاء أثر السلف الصالح بمعنى حالا ومقالا دون قيامه بجميع الفعال، ثمّ أصبح اليوم يكتفي من المنتسب أن يقوم بصلاته في أوقاتها وبشيء من محبّة الذاكرين
لقد ذكر رجال الطريق أنّ أصولها ثلاثة الصدق، المحبة، والتعظيم، ومن جمعت فيه هذه الخصال، فهو صوفيّ على الحقيقة، ومن لم تتوافر فيه فهو مغرور، وعلاوة على ذلك فهو مريض تطلب في حقّه المعالجة، وما معالجته إلاّ أن يتقي الله في سرّه ونجواه، قال تعالى في كتابه العزيز ومن يتق الله يجعل له مخرجا , ويرزقه من حيث لا يحتسب / الطلاق آية / 2، 3

أمّا الصدق الذي جعلوه أصلا من أصول الطريق فهو يبقى للمريد في عقيدته وفي عبادته وفي معاملته مع خلق الله، أمّا كونه في عقيدته فهو أن يعتقد أنّ السند الذي تعلّق به من أهل الله هو وثق الأسانيد وأعلاها على الإطلاق بعد النبوّة، وأمّا كونه في عبادته أن يعبد الله وحده ولا يشرك به أحدا، وأمّا كونه في معاملته هو أن لا يعامل أحدا من الخلق إلاّ بمعيّة الحقّ، قال تعالى وهو معكم أينما كنتم / الحديد آية / 4، وهو المسمّى عند القوم مقام المراقبة، وهو دون مقام الشهود، وهو مقام يكون فيه العبد بحسب استعداده من حيث قوّة شعوره ورقّة وجدانه، وأنّ الله يتقرّب من عبده بحسب منزلته
فكذلك المحبّة تشمل العقائد والعبادات والمعاملات، فأمّا وجودها في العقيدة فهو الجوهر الفرد الذي لا يقبل الانقسام، وقد أشار إليهما إمام العاشقين سيدي ابن الفارض رضي الله عنه بقوله:
وإن خطرت لي في سواك إرادة ـــــ على خاطري سهوا قضيت بردتـي
ومعناها أنّ المحبّة تتمكّن من القلب حتى لا يبقى فيه ما سوى المحبوب، ويصير القلب حينئذ لا يحتجب عنه لا في اللحظات ولا في الخطرات، ولهذا قال الإمام الأكمل سيدي عبد السلام بن مشيش اللّهم أغرقني في بحر عين الوحدة شهودا حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلاّ بها نزولا وصعودا، وهي غاية لا ينالها من ربّه إلاّ من رضي الله عنه ذلك لمن خشي ربّه، وقد أشار إليها الأشرف الشريف فيما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حديث مسند من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ ممّا افترضته عليه، وما يزال يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه رواه البخاري في صحيحه، وأمّا كون المحبّة في العبادات هو أن يتعبّد المريد مخلصا لذاته سبحانه وتعالى، لا لغرض من الأغراض الدنيويّة أو الأخرويّة، وهذه الأغراض المتعبد من أجلها هي المشار إليها بقوله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبّونهم كحبّ الله والذين أمنوا أشدّ حبّا لله / البقرة آية / 165، والذين أمنوا لم تخل أفئدتهم تماما من محبّة الأنداد فلم تغلب محبّتها على محبّة الله، ولم يسووا بينها وبين محبّة الأنداد كما فعل غيرهم، أمّا أثر الأنداد فلم يزل عالقا بهم لأنّه شيء ممزوج بفطرة الإنسان، لأنّ السنّة والفرض تشمل الحسن والسيء، ومن ذا الذي يعيش بدون غرض، والإنسان كلّه غرض فافهم، ولا يسلم من الغرض بأنواعه إلاّ من غاب عن نفسه في قدسه حتى لا يحس من نفسه إلاّ ما هو عينها بقوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنّه الحقّ / فصلت آية / 53
وأمّا كونه في المعاملات، فقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان عن ابن مالك رضي الله عنه عن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه رواه البخاري في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، والنسائي والترمذي والدارمي في سننهم، والمعنى إنّ هذا الحديث يشير إلى نقطة عميقة ودرّة ثمينة لا يلتقطها إلاّ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ونحن إذا تتبعناها لا ريب يذهب بنا الحديث إلى التطويل أمّا ما نريد بسطه أنّ الاخوّة يتنازعها فهم خاصّ وفهم عام، أمّا الفهم العام فهو ما أشارت إليه الآية الكريمة إنّما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون / الحجرات آية / 10، وذلك فيما إذا وقع الشأن أو شجر فيما بين المؤمنين فلا نتركهم وشأنهم، لئلا يؤدي ذلك إلى هتك الآداب الشرعيّة العامّة من حسن الجوار والمعاشرة، وحتى لا يكون غل في قلوب الذين أمنوا على بعضهم بعضا، وأمّا الفهم الخاص فهو لا يتمّ إيمان أحدكم بالله إلاّ إذا كان يرى نفسه متجليّة في كلّ فرد من أفراد المؤمنين، وهنا تتوّحد عنده النفوس قال تعالى وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة/ الأنعام آية / 98، وإلى هذه النقطة يتأتى له معها أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، وإذا لم يصل إلى تلك الغاية فهو بعيد عن مقام المحبّة، ونسوق مثالا لهذه الغاية حتى يشعر بها المؤمن نفسه، وذلك إذا كان له ابناء أو بنات وبجواره أولاد لغيره فتجده يميل بطبعه إلى البرّ والإحسان بأبنائه أكثر من ميله إلى أبناء جيرانه، لأنّه يرى أبناءه خلقوا من نفسه وإليه مرجعهم، وأبناء غيره ليسوا منه، ولا هو منهم إنّما جمعهم به الجوار والإسلام، وهذا أضعف في شعوره وإلاّ فلو تأمل قليلا لوجد نفسه وبقيّة المؤمنين كلّهم أبناء آدم وحواء عليهما السلام، ولو علت مداركه لوجدهم أبناء خليفة الله في الأرض الذي أسجد له ملائكته، ولو زاد فوق ذلك لزاده الله نورا على نور والله نور السّماوات والأرض وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين / الأنعام آية / 75
وأمّا التعظيم فقد قال بعضهم فيه من نظر الأشياء بعين التعظيم استمدّ منها وكان عند الله عظيما ومن نظرها بعين الاحتقار استمدّت منه، وكان عند الله حقيرا، وكذلك يطلب من المريد في المراتب الثلاثة وكينونته في العقيدة هو أن يكون المقتدى به معظّما ملحوظا بعين الوقار والإجلال بحيث لا يقطع المريد أمرا دونه فيما يخصّه من جهة سلوكه إلى الله وأن لا يرى لأحد حيثية فوق أستاذه، قال صلّى الله عليه وسلّـم لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به قال النووي حديث صحيح، والمعنى إنّه يطلب من التابع أن يحط رحاله عند متبوعه، ولا يلتفت إلى سواه قال تعالى إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم / الفتح آية / 10، وكفى بهذه الآية تنويها بمقام الداعي إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أمّا كونه في العبادة فيطلب من المريد أن يستحضر عظمة الله حين الوقوف بين يدي الله، ولهذا المعنى جاءت الصلاة مفتتحة بالتكبير ومخلّلة به ومحشوّة به، وذلك يشعرنا أنّ العبد مطلوب باستغراقه في كبرياء الله وعظمته، وكلّما قال المصلّي الله أكبر ولسان الحال، يقول له أعدها فإنّها أكبر ممّا تقول وتعتقد، ولا يدرك هذه الكبرياء والعظمة إلاّ من صحب الكبراء والعظماء من أهل الله المتقين، وأمّا التعظيم في المعاملات فهو أن يرى المريد نفسه أنّه أمين على ما تحت يديه من أوقات الحياة، تعظيما لتلك الأمانة أن لا يصرّفها إلاّ فيما يرضي الله ورسوله، ومثلها كمثل فتاة ذات دين ومروءة فلا يقرنها إلاّ بكفء حتى إذا آتاهم الله ذريّة كانت على طهارة وعفاف إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون / النحل آية / 90، اللّهم إيّاك نعبد وإيّاك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين، والله يتولانا وهو يتولّى الصالحين
أحمد بن عليوة

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق